تلك “المادة” التي اعتدنا فيها على حفظ سنة الحدث دون أن نلقي بالاً للحدث نفسه لأن درجات الامتحان أعلى شأناً من دروس التاريخ، فصرنا نحفظ النتائج المترتبة عن الفترات التاريخية كما أقرتها وزارات التعليم لا كما أقرها تحليلنا المنطقي، فكان لا بد أن ننتهي إلى امتحانات تاريخ تحوي أسئلة من نوع (ما رأيك في قرار القائد الفلاني في حادثة ..) ولن تجرؤ أبداً أن تكتب حينها عن رأي مخالف لواضع الامتحان، كي لاتنتقص علاماتك!
بسبب كل ذلك وأكثر كان لا بد أن ينشأ أجيـال من عديمي القراءة وخاصة في التاريخ، بعد أن صارت كتب “التاريخ” مادة للسخرية من كثرة ما فيها من ملل ورتابة فائقة للحدود.
في هذا المقال نستعرض بعضاً من كتب التاريخ من مختلف الاتجاهات الفكرية، ولكنها جميعاً تتميز بأسلوب الكتابة الرشيق والغير متحيز لحد كبير، علنا نفتح شهية القارئ الذي لا يزال يبتعد قدر الإمكان عن تلك النوعية من الكتب، أو يظن أنه من الممكن أن يصيغ تجارب أفضل للمستقبل دون قراءة التاريخ!
متمـردون لــوجه الله
ربما كانـت -ولا زالـت– كلمة “التمرد” ترتبط في الأذهان بالمعاداة للأعراف والمجتمع ولكن الكاتب المخضرم “محمود عوض” يبدأ كتابه بتوضيح الفرق الشاسع بين أن تكون متمرداً أو معاديأ فيقول:
إن التمرد هو أقصى درجـات الإيمان بالمجتمع، والتفاؤل بمسـتقبله، فالشخص “المعادي” للمجتمع لن يكون حريصاً مطلقاً على أن يصرخ ويدعو ويعلن ويقنع بأفكـاره، إنه بدلاً من الاحتجـاج العلني سوف ينغمس في إرهاب أو جريمة أو تآمر في الظلام، إنه منفصل ولأنه كذلك فلا بد أن ينافق نهاراً و يتآمر ليلاً.
يتميز هذا الكتاب بميـزة -صدقني- قلما ستجدها في كتب تاريخ ألا وهي: “احترام الاختلاف” فالكـاتب “محمود عوض” حين أراد أن يكتب عن متمردين دفعوا أثمان غالية في مقابل تغيير مجتمعاتهم لم يمارس عادة الكثير من المؤلفين في انتقاء من يتكلم عنهم حسب توجههم الفكري المناسب لهم، بل ضمن الكتاب بشخصيات من مختلف الأوجه الفكرية، لأنه حين كتب ربما لم يهمه الاسم بقدر ما اهتم بالتجربة، وتلك من أجمل سمات كاتبنا الجميـل “محمود عوض”.
يبدأ الكاتب بقصة الأندلسي “ابن حزم” والذي يصفه بأنه: “كان مؤمناً بأقصى ما سمح به عقله وعاشقاً إلى آخر نبضة في قلبه”، ثم يليها بقصة الإمام “ابن تيمية” والذي اتُفق على أنه رجل تم الافتراء به وعليه كثيراً، وسجن في سبيل أن يحارب الضلالات التي سكنت عقول الناس بسـبب فقهاء السوء، وعندما وجدوا إلى موته سبيلاً قتلوه بطريقة ربما ستقف عندها متأملاً!
ينتقل بعدها كاتبنا إلى قصة تمرد من نوع مختلف عن “رفاعة الطهطاوي” الذي أراد أن يصلح التعليم في بلاده حتى تطلب الأمر أن يصير متمرداً ليصنع ما يحلم به، وعن “جمال الدين الأفغاني” الذي قطع الفراسخ ليحاول أن يوقظ شعبه الإسلامي الأكبر من تسلط الظلم و صار يربي الفكرة عند شباب صغار حتى يكملوا المسيرة من بعده فكان منهم الفصيح متقد الذهن “عبد الله النديم” صاحب القصة الرائعة و التي تأتي في نهاية هذا الكتاب.
أيـام لها تاريخ
إن الميزة الأولى التي تُـميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، هي أن كل جيل من البشـر يعرف تجارب الجيل الذي سبقه ويستفيد منها وأنه بهذه الميزة -وحدها- يتطور
بهذه الكلمات يبدأ كاتبنا ذو الأسلوب السردي الرائع “أحمد بهـاء الدين” الذي يحاول من خلال كتابه أن يكشف اللثام عن قضايا هزت المجتمعات لفترات ليست بالقصيرة، فهو يحكي لك عن قصة الزواج التي هزت أروقة المجتمع المصري وكشفت عن كم العنصرية التي تعاظمت في نفوس رؤساء الحكم، وعن قصة تلك الجمهورية التي أعلنتها ذات يوم قرية صغيرة وإلى أين انتهت، وعن قصة صراع رجل الحكومة ورجل الشعب ولمن تكون الغلبة ومن يكتب التاريخ؟
كل ذلك و أكثر في صفحات سردية جميلة، حيث سيتملكك بعد قراءتها إحساس بالحسرة على أنهم لم يكتبوا لنا كتب التاريخ المدرسية بهـذا الأسلوب الذي يجمع بين المعلومة و القصة الجميلة.
رجـال من التاريخ
من كتاب كهذا ستستنـتـج أمرين مهمين: الأول أنه لا بد لك في كتابة التاريخ أن تقرأ أكثر مما تكتب فأنت أمام صفحات تاريخية قلما سمعت بها من قبل، أما الأمر الثاني أن شخصيات التاريخ لا يمكن تناولها كأبيض وأسود أو خير وشر، فالتجارب الإنسـانية أعقد من أن يتم تناولها بهذا العبث.
يتميز كاتبنا السوري “علي الطنطاوي” بالقراءة الغزيرة التي مكنته من سبر أغوار شخصيات إما لم يسمع عنها أو عُرف عنها كلام منقوص، فالكتاب يبدأ بفصل يحكي قصة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، مذيلها بقصة سيدتين من أعمدة هذه التجربة الإنسانية، وإلى هذا الحد ربما قد تشعر أنك أمام كتاب “سيرة نبوية” آخر حتى ينطلق الكاتب بعدها في سرد شخصيات لأسماء رجال ونسـاء من قصص التاريخ الرائعة.
يتميز الكاتب الفقيه “السلفي الاتجاه” بأنه لم يبخس حق باقي الرجال من المذاهب الدينية المختلفة وهو أمر يجسد معنى “فقه الاختلاف” بشكل جميل.
فهو الكاتب الذي يرى في “الاحتفال بالمولد النبوي” و ما يصاحبه من بهرجة بدعة من وجهة نظره، ولكنه يروي قصة مبتدع هذه البدعة “الملك المظفر” فيروي قصص عدله وإحسانه في الحكم وقصص بطولاته وشجاعته في الحرب، فلا ينتقص في سيرة الرجل شيئاً، وكذلك ستجد لديك قائمة من سير رجال عظام لم يمنع اختلافهم المذهبي والفكري عنه أن يروي سيرهم.
سيمتعك الكاتب بـسيرة “معن بن زائدة” و كرمه، ويضحكك على خفيف الظل “أبو دلامة”، ويبكيك على الأم التي كتبت أروع رثاء في التاريخ الحديث “عائشة التيمورية”، ويذهلك بقصة الإمام الذي جمع الدين والدنيا “الليث بن سعد”، ويمتعك بلا شك بمجموعة من روائع قصص التاريخ المختلفة.
لحظة تـاريخ – تفاصيل الشجن في وقائع الزمن
لربما أرجأت هذا الكتاب لذيل القائمة لأنه بحق يثبت أن الكتابـة عن “الكتب” أمر عسير حقاً.
هذا الكتاب يجول بك بين قصص عربية من الزمان الغابر حتى هذا الزمان، فـيرسم لك الواقعة قبل أن يخبرك عنها، قصص لربما حصل الكاتب على كثير منها من السرد الشعبي لا كتب المؤرخين، وزاوج فيها بين الأسطورة و الواقـع فـلا شك أن جهداً جباراً قد بذله الكاتب “محمد المنسي قنديل” الذي جال ربوع العالم تقريباً حتى يجمع لك صفحات هذا الكتاب.
سيحكي لك عن قصص نساء غيرن وجه الصحراء، وعن الحيرة وملكها النعمان الذي كان يقتل و يبكي قتـلاه، و عن الحاكم الذي حكم سنواته الستين في قمة الترف حتى وصل الى أن مات جائعاً في قصره، وعن السلطان الذي لم يعرف معنى كلمة “الشمس” و لم يرها.
وعن المرأة التي سحنت الدر بالدم، وعن بني هلال وتغريبتهم، وعن الذي طلب الخلود، و عن فئران “مأرب”، و عن قصص كثيرة جداً ستروي لك حقاً أن تاريخنا فيه من الكثير ما لم يتم سرده بعد، وفيه من الجدير ألا تحرم نفسك من الاستمتاع به.