مصر تعود لإفريقيا من بوابة الثقافة!
أخيرًا أعادت مصر إصلاح بوصلتها، ووجهت هِمتها واهتماماتها ناحية الإتجاه الصحيح، نحو "إفريقيا" الأم.
والأجمل أن عودتها الى أحضان الأشقاء الأفارقة كان من البوابة التي تليق بها وبقَدَرِها وقَدْرِها ولهذا استقبلها الجميع بترحاب وقبول حسن، لأنهم يعلمون تاريخها ويقدرون دورها الحضاري وإرثها الثقافي ورغبتها في مواصلة العطاء بغير مَنٍ أو استعلاء على أحد.
إن مصر لم تتقزم ولم تَهُن، لكنها انشغلت لأكثر من خمسة وأربعين عامًا عن دورها الريادي في السياسة وقضايا التحرر وقيادتها للشعوب العربية في شمال أفريقيا وفي العمق الأفريقي من جنوب الصحراء الكبرى وحتى جنوب إفريقيا، هذه القيادة التي كانت سببًا في جلاء الاستعمار عن القارة الأفريقية كلها، كما ساهمت بكل قوة في البناء الإقتصادي والتعليمي لهذه الشعوب.
من بوابة الثقافة أطلت مصر على أفريقيا من جديد بعد ليل طويل، وغياب خبيث، كان الغرض منه تقزيم دورها وإفساح المجال للصهيونية العالمية كي تسيطر على مقدرات هذه القارة تحت رعاية أمريكية ومباركة من دول الاستعمار القديم الذى ما زال معتقدًا أن إفريقيا حق من حقوقه المشروعة والتي يجب أن يستغل إمكاناتها من أجل راحة ورفاهية الرجل الأبيض!
الملتقى الدولي الرابع لتفاعل الثقافات الإفريقية تحت عنوان "الثقافات الإفريقية في عالم متغير" من الفترة ١٢-١٤ نوفمبر ٢٠١٩ والذي استضاف فعالياته المجلس الأعلى للثقافة، ولأول مرة منذ زمن طويل يلقى مؤتمرٌ غير رئاسي (لا يحضره رئيس الجمهورية) كل هذا الاهتمام ويُبْذَل فيه من الجهد والتنظيم وحسن الإدارة ما يجعله يخرج في هذه الصورة المشرفة التي تليق بالوجه الحضاري لمصر.
على مدار ثلاثة أيام استضافت مصر سبعين باحثًا من عشرين دولة أفريقية، التقوا جميعًا تحت رعاية وزيرة الثقافة الدكتورة "إيناس عبدالدايم" وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة الدكتور "هشام عزمي" ومقرر الملتقى والقائم على الإعداد له المفكر الدكتور "حلمي شعراوي" الذي رغم مرضه وعمره المبارك لم يبخل بجهد أو وقت أو علم في إنجاح هذا الملتقى بل أعاد وكرر أنه على استعداد لبذل المزيد لكي تتشرف مصر بإقامة ورعاية هذا الملتقى في العام القادم بإذن الله في دورته الخامسة.
من خلال "عشر جلسات ومائدة مستديرة" ناقش الأفارقة وضع قارتهم ثقافيًا، ولم تدع الجلسات شأنًا ثقافيًا إلا وناقشته من خلال أوراق بحثية قدمها خيرة شباب إفريقيا، والذي إريد أن أشير إليه هنا أنهم جميعًا تحلوا بالجدية والإلتزام وتمثيل بلادهم في أبهى صورة ومن المعروف عن الأفارقة رغم التشويه المتعمد من الغرب أنهم أصحاب أخلاق دمثة وطباع هادئة ولديهم ملكة الاستماع الجيد ولغة الحوار الراقية.
كانت أوراق هؤلاء الشباب البحثية تناقش أمورًا ثقافية هامة تعيق إنطلاقها سياسيًا رغم أنها شؤون ثقافية خالصة، لكن العالم الأن ونتيجة لثورة الإتصالات والرقمنة والإنترنت وشبكات التواصل جعل كل شيئ يصب في بوتقة واحدة، وصار رؤساء أعظم دول العالم يصدرون قراراتهم ويحللون آراءهم من خلال صفحاتهم على تويتر وفيسبوك، بل إن تهديد ترامب لكوريا الشمالية كان من خلال تويتة!
بعد الافتتاح انعقدت الجلسة الأولى وكانت "قراءة للسياسة الإفريقية وصعود إفريقيا في السياسة الدولية" وتناولت الحديث عن إعادة تشكيل الاقتصاد السياسي العالمي ومستقبل إفريقيا. بعدها توالت على مدار ثلاثة أيام متتالية تسع جلسات نُوقِشَت فيها جميع الأبحاث المشاركة، والتي قدمها شبابٌ وأكاديميون ومتخصصون وكانت كالآتي: الثورة الرقمية وحفظ التراث الثقافي الإفريقي، وتاريخ ودور المرأة الإفريقية في الثقافات الإفريقية، والتفاعل الثقافي العربي الأفريقي، ودور مؤسسات المجتمع المدني في تنمية الثقافة في القارة، كما ناقش الحاضرون الملكية الفكرية وحماية التراث الثقافي، والامتداد الإفريقي خارج القارة.
لم يغفل الملتقى الفنون بشتى أنواعها وأثرها الثقافي وتأثيرها القوي على التقارب والإندماج بين شعوب القارة فناقشوا سينما المرأة الإفريقية، ودور السينما عمومًا في تشكيل الصورة الذهنية عن إفريقيا، بل هناك ورقة بحثية ناقشت الملامح الأفريقية في عرض البالية وعالمية الفن الأفريقي وجمالية الصورة والأسطورة من خلال بعض النماذج الفنية، وناقش أحد أبناء السودان الجنوبي وهو "چاستين بيلي" التصوف والذكر في في فهم جذور الرقص الديني في وطنه، وتأثير المعتقدات الدينية سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو وثنية على هذا الفن لو جاز لنا اعتبار أن الرقص الصوفي فن.
وخلال الجلسة الأخيرة التي ترأسها وزير الثقافة الأسبق "د.عماد أبو غازي" تم تناول "الهوية الثقافية الإفريقية" بالبحث والتدقيق، وكانت ورقة "د.حفيظة مخنفر" من الجزائر على درجة كبيرة من الأهمية حيث ناقشت الهوية الثقافية للجزائر الشقيق، وهل توجد هوية واحدة أم عدة هويات في الجزائر، ولهذا فقد ألقت الضوء على الصراع الثقافي بين الهويتين العربية والأمازيغية، وإشكالية الخوف من الآخر هناك.
كانت الورقة البحثية التي قدمتها "د.نادية عشماوي" على نفس القدر من الأهمية في الإشارة إلى أيدلوجية "القبلية" و "الإثنية" وما تمثلة من عائق نحو تكوين وقيام دولة بشكل صحيح وسليم، وإن كنت أرى من وجهة نظري الخاصة أن الموضوع على قدر أهميته لم يأخذ حقه في الدراسة وكذلك في العرض الشافي!
انتهى الملتقي بعد أن أعلن "د.خالد أبو الليل" أستاذ الأدب الشعبي بجامعة القاهرة توصيات الملتقى وذلك في حضور د.إيناس عبد الدايم والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة د.هشام عزمي والمفكر د.حلمي شعراوي مقرر الملتقى، وبعد أن تم تكريم الباحث الشاب المرحوم "محمد حجاج" لجهوده في الدورات السابقة للملتقى حيث تم إهداء والده "درع المجلس الأعلى للثقافة" ولوحة فنية تضم صورته من الدكتورة سهير عثمان. ولا نستطيع أن نغفل المعرض الذي صاحب الملتقى والذي كان بعنوان "الفن التشكيلي المصري وتفاعل الثقافات الأفريقة" والذي ضم خمسةً وستينَ فنانًا من مصر وإفريقيا.
الملتقى عمومًا وفي صورته النهائية كان بالغ الأهمية وجاء في وقته، وناقش أمورًا لها أثرها في الحاضر والمستقبل الإفريقي، وكان الترتيب للملتقى رائع ويليق بدور مصر الثقافي والإقليمي، ونال اهتمامًا من المسئولين والحاضرين على حد سواء، ولكن حتى يكون الأمر مقبولًا وصادقًا لابد من الإشارة إلى بعض نقاط الضعف التي يصعب إغفالها وذلك لتفاديها مستقبلًا، ولتظهر الملتقيات القادمة على الوجه الأكمل وبما يليق بمصر وريادتها الثقافية على مدار التاريخ.
كان عامل الوقت مؤثرًا، فلم يتح للباحثين استكمال قراءة الملخصات، ولا عرض رؤيتهم أو نتائج أبحاثهم وتوصياتهم، ناهيك عن الحاضرين الذين لم يجدوا سوى دقيقة واحدة لمناقشة البحث!
لم يكن لمعرض الفنون التشكيلية في البهو الرئيس للمجلس الأعلى مندوبًا فنيًا يستقبل الزوار أثناء الأيام الثلاثة للملتقى، وإن كان موجودًا فلم أشعر بوجوده أو نشاطه.
لم يهتم الملتقى بعرض ندوات واحتفالات فنية تشارك فيها الدول الإفريقية عمومًا أو مصر على وجه الخصوص بعروض فلكلورية وفنون شعبية وتراثية خصوصًا من أسوان والنوبة وسيناء ومطروح!
أخيرًا وبكل صدق كان الملتقى احتفالية عظيمة وصورة مشرفة أشرقت مصر من خلاله على كل أشقائها الأفارقة، وترك أثرًا إيجابيًا في نفوس الحاضرين ونتمنى أن يتكرر و يتطور إلى الأفضل في الأعوام القادمة.