دراسات في الفلكلور السوداني

دراسات في الفلكلور السوداني

الكاتب: نصر الدين سليمان

إن الكتابة عن السودان تاريخياً أو اجتماعياً أو سياسياً كمن يشاهد جبل جليد في أحد المحيطات، الجزء المخفي منه أكبر بكثير من الجزء الظاهر. من هذا المنطلق يأتي ثراء الحديث عن السودان المجتمع، العادات، والتقاليد. هذا ما يتناوله الباحث السوداني الدكتور نصر الدين سليمان رئيس قسم الفلكلور وعميد كلية الآداب والدراسات الإنسانية بجامعة دنقلا، صاحب العديد من الكتب في الموضوعات ذات الصلة مثل: الإنسان والأرض، والشعر عند الشايقية، والوظيفة الاجتماعية للذكر الصوفي، وله الكثير من الدراسات المنشورة بمكتبة الدراسات الأفريقية والآسيوية مثل: الزواج عند الجعليين، والزار في السودان، وقصص ما بعد الموت بين الحقيقة والخيال. يشير الكاتب إلى أن الاهتمام بالفلكلور السوداني يعد من أهم أسس تنظيم وإتمام عملية الانصهار الثقافي والفكري لمجتمعات السودان (ما اصطلح عليه من لفظ التعددية الثقافية والعرقية داخل إطار الرابطة القومية الواحدة) مع اختلاف اللهجات المحلية. كما أنه من مكونات الهوية والشخصية الحضارية للأمة والمتمثلة في ذلك الكم الهائل من العادات والتقاليد والأعراف والسلوك والمهن والحرف والمعتقدات والفنون وكل ما يصنعه الإنسان من تقنيات. قي البداية يتناول المؤلف موضوع الجرتق: الأصل والممارسة والأدوات، والجرتق هو نوع من الأحراز يستخدم لدفع الضرر أو لجلب المنفعة، وهو من العادات الخاصة بالزواج. وتستخدم عدة أنواع من الأدوات والمواد مثل الأخشاب والبخور والصندل واللبان والبذور، وبعض الأنواع من الخرز الأحمر والأخضر والأزرق وكلها ذات دلالات عن الخصوبة والنماء ومقاومة الشر والقدرة على العلاج. وهو من الممارسات المشتركة لدى الكثير من القبائل السودانية مثل التعايشة والجعليين والمحس والشايقية. وتتم طقوسه من قبل أهل الخبرة من النساء والشيوخ في طقس يغلب عليه الطابع الديني. ثم يتحدث الكتاب عن الشلك: العادات والتقاليد وطقوس التتويج. والشلك من القبائل التي تعيش في الجزء الغربي من شاطئ النيل الأبيض، وهم من نفس مجموعة قبائل النوير والدينكا. وفي نظام الحكم يتولى الرث (رئيس القبيلة) السلطات الروحية والزمنية، ويتم انتخابه من قبل أبناء الرتوت السابقين، ولا يقبل الشلك بتعيين الرث من قبل السلطة الحاكمة. والرث في مظهره الإنساني شخص عادي وإن كان يمتاز بالضخامة والقوة الجسمانية ومن عادات الشلك المميزة حفلات اختيار الأزواج حيث يتجمع الفتية والفتيات من القرية في حلبة الرقص وفي كامل الزينة، ويتم الاختار المتبادل بعد انتهاء الرقص وبالتراضي، والخطوات التالية يقوم بها أهل الفتى من النساء. كما أنه من عادات أهل الشلك خاصة زوجات الرث مغادرة القبيلة لإتمام الوضع بعد الحمل وفي الشهر الخامس، وعدم قتل بعض الحيوانات باعتبارها من الأرواح الخيرة الجالبة للرزق مثل الثعابين. كما يستعرض الكاتب وبالتفصيل طقوس ومراسم تتويج الرث وكذلك عادة القتل الطقسي التاريخي للرث عند اعتلال صحته أو عند عدم قدرته على تسيير أمور القبيلة، ويعد العجز الجنسي من مبررات شكوى زوجات الرث لكبار حكماء القبيلة، والذين يصدرون قرار القتل الطقسي، حيث يذهب الرث وبصحبته إحدى بنات الأسرة الحاكمة إلى مكان منعزل بدون طعام أو ماء حتى الموت، أو تقوم إحدى زوجاته بخنقه. ويتم القتل طبقاً للموروث الديني الذي يوضح أن موت الرث بشكل طبيعي يجلب الدمار على القبيلة كلها، والجدير بالذكر أن تلك العادة قد توقفت منذ زمن بعيد. ثم يستعرض الكتاب دور المرأة الريفية ونشاطها في الحرف والمهن التقليدية في بعض مناطق السودان، حيث يلاحظ اقتصار دورها على بعض النشاطات الهامشية مثل: البروش ـ السلال ـ التطريز ـ الحياكة ـ المشغولات ـ المأكولات، وذلك على الرغم من التواجد العددي الكثيف للنساء في بعض المناطق السودانية، والذي يرى الكاتب أن محدودية ذلك الدور ناتجة عن غياب عناصر التغيير الثقافي (الأعراف ـ المعتقدات ـ العادات ـ التقاليد)، علاوة على عدم وجود مؤسسات نشطة للدفاع عن المرأة، وقد أدى تهميش دور المرأة إلى ظهور الأمراض النفسية لدى بعض الفتيات، وعدم وجود مؤسسات اجتماعية لتدريب وتنمية القدرات والمهارات النسائية، وعدم وجود مؤسسات تمويلية لبعض النشاطات النسوية الجماعية. كما يناقش المؤلف الثقافة الشعبية وحوار الحضارات، حيث استطاعت اللغة نقل الثقافة والتعبير عن محتواها الشعبي لكل المجموعات متناولة كل الموروث الحضاري وأوجه التداخل والصراع والتباين الحضاري بين الثقافات، وأصبحت الثقافة الشعبية إحدى أوعية هذا التماثل الثقافي ومورداً هاماً للتسامح والتصاهر الاجتماعي بين المجموعات الحضارية المتباينة. لذلك يمكن النظر إلى الثقافة باعتبارها قوة ديناميكية متجددة ومرنة في كل الاتجاهات، يحدد مسارها طبيعة الظروف وقدرة وإيجابية الأفراد والجماعات في فهم العملية الثقافية وأسس تبدلها وتحولها وإسهاماتها. ويشير الكتاب إلى الآثار الثقافية والاجتماعية للتصوف في السودان والذي عمل على خلق واقع ديني ثقافي جديد في السودان، فقد كان لبعض دلالاته ومفاهيمه الثقافية دوراً في حركة الثقافة الشعبية الدينية بالسودان. وقد اختلطت المظاهر الدينية والروحية للتصوف مع الموروث الوثني الإفريقي لدى بعض المجموعات العرقية في السودان (جبال النوبة ـ الدينكا ـ الشلك)، فحدث الاستيعاب المتبادل، والذي واكبه بعض التعديلات التي أثبتت قدرة المجتمع السوداني على التمثيل وإعادة التشكيل، بل وإعادة تمثيل التصوف الوارد إلى منابعه في ثوب جديد. وقد مر التصوف في السودان بعدة مراحل، وهي: مرحلة القدوم والتوطن (القرن الخامس عشر ـ القرن التاسع عشر)، ومرحلة الإحياء والتجديد (القرن التاسع عشر ـ القرن العشرين)، ومرحلة التفريغ وهي مرحلة وسطية بين الاثنين حدث فيها التمازج وظل ينعكس حتى الآن. وقد ساهم التصوف في تغيير وظائف بعض المؤسسات الاجتماعية، فأصبحت الخلوة مثلاً مكاناً لتعليم النشء والمريدين من علوم الفقه والتفسير واللغة، كما أعاد التصوف للمسجد بعض أدواره الأساسية مثل: القضاء ـ التفسير ـ الضيافة ـ الحماية ـ حل المنازعات ـ الإفتاء، بل تجاوز الأمر لاعتبار المسجد مجلساً تناقش فيه الأمور السياسية. ثم يتناول الكاتب موضوع الغيب والقدر والحكم والأمثال السودانية باعتبارها من أكثر مكونات الفلكلور التي تعطي صورة عامة للمجتمع، وذلك بما فيها من صور حية للبيئة وتصوير للسلوك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجتمع، بل وتعتبر مرآة تعكس العادات والتقاليد والسلوك. كما أن القدر من معالم الفلكلور الحديث، ويمكن إرجاعه لأصله في الثقافة الإسلامية الراسخة في وجدان الشخصية السودانية. ويتحدث المؤلف عن دور الدين في إحداث التغيير الاجتماعي والثقافي موضحاً أن مظاهر التدين التي حدثت في كل المجتمعات الإنسانية عبارة عن تغيير اجتماعي وثقافي يرمي إلى عودة البشرية إلى الحق والرجوع إلى السمو والفضيلة والتكافل، كما أنها أظهرت الكثير من السلوكيات القويمة وأبرزت بعض الفنون والأشكال العقائدية الفنية والأدبية والموسيقية، مما أوجد صوراً من التغيير الثقافي المميز الهادف بكل معانيه الإنسانية الفطرية مما أتاح للمجتمعات الإنسانية نمواً وازدهاراً ثقافياً واجتماعياً متسارعاً. وأخيراً يناقش الكاتب علاقة الفلكلور بالتنمية مشيراً إلى بعض مظاهر التراث والسلوك الشعبي المؤثرة على مشروعات التنمية خاصة ما يتعلق بوضع المرأة ودورها ووظيفتها، واحتقار العمل المهني أو الزراعي، وبعض مظاهر السلوك الديني المنحرف والمعتقدات الغيبية والأسطورية والخرافية، علاوة على قوة بعض العادات والأعراف المتوارثة وما تفرضه من سلوك معين في أساليب العمل والإنتاج والاستهلاك والتربية، ومشاعر الانتماء الاجتماعي أو الطبقي أو العائلي أو القبلي. وعندما تكون كل تلك المؤشرات أو بعضها سلبياً تكون انعكاساتها مدمرة لخطط التنمية، والعكس تماماً في حال إيجابيتها.



لا تنسى تحميل تطبيقاتنا

  • - تحميل الكتب إلي هاتفك وقرائتها دون الحاجة إلي الإنترنت
  • - تصفح وقراءة الكتب والروايات أون لاين
  • - متعة الإحساس بقراءة الكتب الورقية
  • - التطبيق مقدم مجاني من مكتبة الكتب

اقرأ أيضا