رواية الغريب

قراءة في رواية الغريب للكاتب ألبير كامو

يمكننا تلخيص الخطوط العريضة في رواية الغريب للكاتب ألبير كامو ضمن أربع محطات؛ وفاة والدة ميرسولت بطل روايتنا وحضوره العزاء، مساعدة البطل لصديقه في كتابة رسالة لعشيقته، نشأة علاقة بين البطل وزميلته في العمل، ارتكاب ميرسولت لجريمة القتل.

الرواية بأكملها تقع في الجزائر وتأتي على لسان ميرسولت وكانت هذه الطريقة غير معتادة عند ظهور الرواية لأول مرة فقد كان أسلوبًا غير مألوف أن تأتي جميع الأحداث على لسان بطل الرواية، من الصفحة الأولى يظهر الفراغ الإنساني الذي يملأ بطلنا، لكن أي فراغ نقصده؟

في رواية الغريب للكاتب ألبير كامو يعد ميرسولت هو مثال للفراغ بكل مستوياته ماديًا ومعنويًا؛ لا يملك أي شخص مهم في حياته بعد وفاة والدته حتى والدته خسرها قبل الوفاة بمدة كبيرة وكان الفراق هو الحل بذهابها إلى دار للعجزة، أما معنويًا فالحياة عنده سواء الحياة كالموت، الموافقة كالرفض كل شيء عنده بلا معنى أو هدف.

مفاهيم اشتملت عليها رواية الغريب

هذا يدفعنا لترقية مصطلح الفراغ الإنساني للعبثية واللامبالاة والعدمية قبل التطرق لهذه الجوانب بالتفصيل يجب علينا توضيح الفروق بين هذه المصطلحات، اللامبالاة هي معروفة وتظهر من البداية بقول ألبير “اليوم ماتت أمي، أو لعلها ماتت أمس. لست أدري”، أما العدمية فيجد فيها الشخص أن الحياة بلا معنى أو طائل.

كذلك البحث عن معنى لها بلا فائدة لذا فلنحياها كما هي دون مشقة في التفكير في الماورائيات، لكن العبثية يجد فيها الفرد أن الوصول لماهية الحياة والهدف من الوجود الإنساني هو محض هراء وغير ممكن حدوثه على أرض الواقع.

فكل هذه المجهودات ستتكلل بالفشل وتتشابه مع أسطورة سيزيف الذي حُكِم عليه برفع صخرة ضخمة لجبل عالٍ فإذا ما وصلت سقطت مرة أخرى.

رواية الغريب ومظاهر العبثية والعدمية

الحقيقة أنه من المستحيل الفصل بشكل حاسم بين الأجزاء التي تجلت فيها كل من العبثية والعدمية على نحو مفرد؛ فالمفهومان مندمجان داخل أحداث رواية الغريب للكاتب ألبير كامو لكن يمكننا تسليط الضوء على أبرز المحطات التي تجسدت فيها العبثية والعدمية.

المحطة الأولى: وفاة والدة مورسو

الرسالة التي وصلت لميرسولت لم يتم تحديد زمن الوفاة فيها وهذا قمة العبث فلا قيمة أو اعتبار للوقت، ويتم التعامل معه باعتباره شيئًا ثانويًا، حتى أنه رغم حادثة وفاة والدته وجد من صفاء الذهن ما يكفي ليتأمل أدق تفاصيل الحاضرين ولم يترك لنفسه مجالًا للحزن بدعوى أن السفر أرهقه وهذا تجلٍ واضح للعدمية الأخلاقية على وجه التحديد.

عندما انشغل الجميع بتشييع الجثمان انشغل ميرسولت بالتذمر من أشعة الشمس، بدلًا من أن يستثمر وقت إجازته في العناية بمراسم تشييع أمه استثمرها في السباحة والراحة ومشاهدة أحد أفلام فرنانديل الفكاهية.

المحطة الثانية: علاقته بجيرانه وعشيقته ماري

كان ميرسولت قادرًا على أن يلاحظ كل تفاصيل الحياة اليومية المحيطة بمن حوله ولكنه في نفس الوقت لا يعيرها اهتمام، فرغم علمه المسبق بأن جاره معروف بعمله كقواد إلا أنه وافق على مساعدته في الثأر من الفتاة العربية وهذا مظهر جديد للعدمية الأخلاقية فلا يشغله البحث وراء الأسباب أو إن كان صديقه يستحق المساعدة أم لا؛ فمبرره للموافقة على المساعدة هو عدم وجود سبب للرفض حتى وإن كانت تلك المساعدة هي شهادة زور!

أما ماري فكانت زميلة سابقة له فالعمل وسعى للتعرف عليها بعد وفاة والدته سعيًا لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من إجازته بعد انتهاء مراسم دفن والدته في وقت قصير، ولم ير فيها سوى الجسد والسبيل لإشباع رغباته حتى أنه لم يتمكن أن يخبرها بحبه فالحب عنده كالكره كلهم سواء، ومن شدة تشبثه بعبثيته ومذهبه العدمي تحفظ ميرسولت على لفظ “عشيقة” حيث وجد فيه مزيدًا من الحميمية ما لا ينبغي أن يتواجد في هذا العالم.

المحطة الثالثة: جريمة القتل التي قام بها مورسو

قام ميرسولت بقتل رجل عربي بـ5 رصاصات الأولى أردته قتيلًا لكنه استمر في إطلاق الرصاصات، لعلك لاحظت من المحطات السابقة أن ما يشغل ميرسولت بطبيعته العدمية والعبثية هو الجوانب المادية، فهو يرى أن الحاجات الجسمانية مقدمة على المشاعر أو الأمور الوجدانية.

لذلك يسهل تخمين أن دافع القتل كان ماديًا وأنانيًا بحتًا وهو ضوء الشمس الذي انعكس من سكينة العربي وجعلته يشعر بحرارة شديدة دفعته للتخلص من الجسم المسبب لهذا المنغص.

حتى سببه لرمي 5 رصاصات؛ هو رغبته في ذلك فقط وهذا مثال للعدمية الأخلاقية والوجودية معًا فميرسولت يرى الحياة بلا معنى لذا لا مانع من التخلص منها فالموت بلا معنى أيضًا، كما أنه يرى أن الموت يعني انقضاء الحياة فلا فرق بين القتل أو الموت.

المحطة الرابعة: التحقيقات مع مورسو والسجن

لم يتوقف ميرسولت عن ترديد عبارة “ليس ذنبي” ولم ينكر فعلته بل اعترف بها بأدق تفاصيلها، لكنه يغوص في العدمية بشكل شديد فظل يحتفظ بأفكار رجل حر رغم السجن ويعد ذلك أحد أشد أجزاء الرواية سوادًا، وتجسدت فيها الكوميديا السوداء بوضوح فراجع مورسو حياته بالكامل وتمثل العديد من ذكرياته وقارنها بحياته الحالية داخل السجن وحرمانه من السجائر.

المحطة الخامسة: رفض مورسو لفكرة الإله ومقابلة القس قبل الإعدام

عقب حكم الإعدام على ميرسولت حاول القس مرات متعددة مقابلته لكنه رفض بحجة أن لا داعي للمقابلة فهو لا يؤمن بوجود إله في إشارة للعدمية الدينية، حاول القس أن ينبهه لمعاني كالضمير أو الندم ويساعده على اكتشاف جريمته وأن عقابه ما هو إلا محاولة لجعله يشعر بالندم إلا أنه أصر على كلامه بأن القتل ليس ذنبه وإنما ذنب الشمس التي دفعته لذلك بحرارتها الحارقة.

الرمز المذهب العبثي والعدمي في الرواية

يتخلل المذهبان السابقان جميع أنحاء الرواية حتى إن ذلك يظهر في كل تفصيلة فمثلا الـ 5 رصاصات ترمز للحواس الخامسة التي يعتمد عليها ميرسولت في تبرير تصرفاته ويقدم كل ما ينفعهم على أي شخص أو شعور إنساني آخر.

اسم ميرسولت عند البحث عن الكلمات التي يشملها في اللغة الفرنسية وتعريب هذه الأسماء نجدها يعني الموت، القتل، شمس، وحيد، غبي، الخلاص.

حتى حياة مورسو تجسد الجانب المادي للعدمية فهو يحيا في غرفة واحدة من الشقة ويستخدم منضدة واحدة فهو يستعين بشيء فردي من كل شيء وهذه هي حياة العدمي فهو ينعزل عن الحياة أو يحياها بشكل منفرد.

محاكمة ميرسولت والشهود وتقرير مصيره دون تدخل منه؛ يمثل نظرة المجتمع للعدمي وكيف يحيا العدمي ويترك الحياة تجري كما تشاء، فتكررت كثيرًا عبارة “قضيتي تأخذ المجرى الطبيعي” فهو لا يهتم بتوكيل محامي للدفاع عنه أو تقديم مبررات أو حتى يرى ما فعله جريمة ببساطة أقدم على الفعل لأنه يريد ذلك ولن يتحمل عناء صرف التهمة عنه.

انهيار العدمية في رواية الغريب

رغم أن كل شخصيات رواية الغريب للكاتب ألبير كامو تتقبل عدمية البطل، وميرسولت يترك نفسه كالريشة تتقاذفها الرياح إلا أنه كان فاعلًا في أجزاء محددة القاسم المشترك بين جميعها هو العرب، فشهد زورًا ضد الفتاة العربية عشيقة جاره الفرنسي لتلقينها درسًا بعدم تركه مرة أخرى، وكتب له خطابًا ليستدرجها لمنزله، قتل العربي، حتى أنه لم يمنح للعرب تفاصيل أو شرح رغم أنه منح لكلب جاره تفصيل دقيق هو يكتفي بذكر لفظ عربي على الرجال و موريات على النساء.

خلع ألبير عباءة عدميته والفراغ الإنساني الذي يكتنفه من كل جنب مع العرب وهو بشكل أو آخر يمثل الاحتلال رغم أن للكاتب تصريحات مضادة للإحتلال الفرنسي للجزائر إلا أن عدميته لم تتكمن من الصمود أمام كونه المستعمر.