ما أن يذكر اسم “صالح علماني” حتى تحضرك فورًا عناوين شهيرة جدًا، مثل: مائة عام من العزلة، الحب في زمن الكوليرا، حفلة التيس، شيطانات الطفلة الخبيثة، قصة موت معلن، وغيرها الكثير والكثير من عناوين الروايات التي باتت تمثل أيقونات وقطع سردية ثمينة في تاريخ الآدب.
فقد كان للمترجم الراحل “صالح علماني”، والذي وافقته المنيه أواخر العام الماضي، فضل كبير في انتشار الآدب اللاتيني عربيًا، بعدما نقل روائعها للقراء العرب على مدار أكثر من ثلاثين عامًا، ساهم خلالها في تعريفنا بالثقافة والآدب اللاتيني عبر ترجمته الاحترافية المبدعة لأهم الكُتّاب و المؤلفين اللاتين.
كثر ما يميز ترجمات “علماني” أنك حين تشرع في قرأتها، يراودك شعور أنها كتبت بالعربية بالفعل، وأنها ليست مترجمة عن لغة أخرى، فالرجل ما كان يترجم، بل كان يقدم النسخة العربية من العمل الروائي، يفعل ما هو أكبر وأدق وأرقى من الترجمة، كان ينقل روح النص كما لو إنه كاتبه الأصلي، فقد كان متشبع بثقافة أمريكا اللاتينية فعبر عنها أعظم تعبير.
روايات قصيرة من ترجمة صالح علماني عليك قرائتها
وللمبتدئين في القراءة، هذه ترشيحات لـ 4 روايات قصيرة (من نوع النوفيلا)، نقلت للعربية بترجمة “صالح علماني”، ما أن تبدؤها ستجد نفسك متورّط فيها تمامًا ولن تتركها دون إنهاؤها من حدَّة المتعة الخالصة بين سطورها، وتعتبر أيضًا مدخل جيد لك في الدخول لعالم الآدب اللاتيني؛ عليك البحث عنها واقتناؤها.
ليس لدى الكولونيل من يُكاتبه
اشتهر “صالح علماني” وارتبط اسمه بالكاتب الكلومبي الحاصل علي نوبل للآدب “جابرييل جارسيا ماركيز” من خلال قيامه بترجمة لروايتين من أشهر أعماله، وهما: “مئة عام من العزلة” و”الحب في زمن الكوليرا”. غير أن “علماني” قدم للمكتبة العربية عدد كبير من الكتب والروايات التي تحما اسم “ماركيز”، حتى إنه ترجم سيرته الذاتية “عشت لأروي”.
وقد كان أول عهد لـ “علماني” بعالم الترجمة مع الرواية القصيرة “ليس لدى الكولونيل من يُكاتبه” لـ “ماركيز” أيضًا، والتي صدرت ترجمتها العربية لأول مرة في بيروت عام 1979. وكانت هذه الرواية القصيرة بمثابة فاتحة الخير على “علماني”، بعدما قُبلت بإستحسان الكثيرين، لما بذله فيها من توضيح مغزى النص الأصلي، ونجاحه في جعل السرد يتسلل لخيال القارئ كمشهد سينمائي لتكتمل الرؤية.
والرواية تقدم في عدد قليل من الصفحات، أقل من 100 صفحة، حكاية ملاحقة السراب، وضياع العمر من أجل انتظار ما لا يأتي، فيجسد لك الخذلان ومرراته، والفقد وآلامه، والخيبة وحسرتها، وما تعانيه الشعوب في ظل الحكم الديكتاتوري.
وكعادة “ماركيز” طريقة سرد الأحداث، ووصفها ممتعة للغاية، واللغة التي كتب بها بسيطة، ويبهرك بإهتمامه بأدق التفاصيل، وإغراقك في المآساة، وتقبل أبطالها لما يحصل لهم كما لو كان أمر عادي يحدث كُل يوم.
ساعي بريد نيرودا
أحدى روائع الآدب الأمريكي اللاتيني للكاتب «أنطونيو سكارميتا»، ونقلها المترجم الفذّ «صالح علماني» للعربية. تحكي رواية “ساعي بريد نيرودا” قصة الأماني والأحلام التائهة، والمسارات والأقدار المتشابكة، مع ثنائية الحب والثورة، على لسان بطلها الرئيسي “ماريو خيمينث”. فنتتبع مع سطورها حلم شاب يهجر مهنة الصيد ليعمل ساعي بريد لرجل واحد، يسكن في جزيرة بعيدة بايسلانيغرا، ألا وهو “بابلو نيرودا” شاعر التشيلي العظيم، فيتأثر به لحد كبير جدًا، فيقرر أن يصبح شاعرًا مثله، ويشرع في كتابة ديوانه الأول.
نجح “صالح علماني” أن ينقل لنا خفة روح النص الأصلي، الذي كتبه “سكارميتا” بشاعرية وعذوبة وغنائية بلغة مليئة بالاستعارات، ليعيد سرد حياة “بابلو نيرودا” وهو الشاعر الذي خالط السياسة كما خالص البسطاء والمهمشين في بلاده. جاء الرواية كمزيج فريد من الواقع وتسلسل الأحداث التاريخية والخيال الآدبي في ملء الفراغات بينها، فتذكر الرواية أحداث حقيقة وقعت في حياة “بابلو نيرودا” خلال فترة ترشحه لرئاسة تشيلي، وفوز الرئيس “سلفادور ألليندي” ومقتله على يد الإنقلابيين، مع تخيل لحوارات خفيفة الظل بينه وبين صديقه ساعي البريد.
نجح «علماني» في نقل شاعرية النص وخفة ظله كما لو كان يكتب النسخة العربية لها لا التعريب والترجمة.
نجد أن في خلفية الخط الرئيسي للأحداث، تدور حول الأوضاع القلقة والاضطرابات السياسية التي تعيشها تشيلي حلال فترة حكم أعتى الديكتاتوريات العسكرية التي عانت منها أمريكا اللاتينية نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي.
اللامتناهي في راحة اليد
رواية الشاعرة والروائية النيكاراغوية “جيوكوندا بيللي”، صدرت باللغة الاسبانية، وسرعان ما قام “صالح علماني” بترجمتها إلى العربية، لتصدر عن دار المدي في دمشق للمرة الأولى عام 2009، وتقع أحداثها في 210 صفحة مليئة بالمتعة والإثارة والتشويق، وكتبت بلغة شاعرية جميلة، اعتمدت على مزج الخيال الآدبي بالروايات الشعبية والمثيولوجيا التوراتية عن قصة الخلق الأول؛ لتتبع فيها تاريخ بداية البشرية، عبر محاكاة جديدة لقصة حياة الزوج الأول في الأرض.
تحكي رواية “اللامتناهي في راحة اليد” قصة أدم وحواء، وخروجهما من جنة عدن إلى الأرض، كيف كانا عندما وُجدا على الأرض وحدهما حيث العالم خلق لتوّه، وقصة بداية الخليقة، وصراع قابيل وهابيل، وذلك في إطار درامي خيالي، مبنى على حكايات كثيرة من الكتب المقدسة، وتفسيرات أسفار التوراة، وكتب الأساطير وما دون من المخطوطات نسجتها البشرية منذ عصور قديمة.
الرواية قائمة على فكرة وصف المشاعر والأحاسيس للإنسان الأول، الدهشة الأولي، الخوف الأول، اللقاء الأول، اكتشاف النار، الحاجة إلى المسكن، وهكذا. وقد ادرجت “جيوكوندا بيللي” في مستهل روايتها كلمات من قصيدة Auguries of Innocence للشاعر الإنجليزي الشهير “لوليم بليك”، والذي اقتبست منها عنوان الرواية، ويقول فيها:
«لترَ العالم في حبة رمل،/ والسماء في زهرة برية،/ اجمع اللامتناهي في راحة اليد/ والأبدية في ساعة واحدة».
برز هنا دور “علماني” في الترجمة العربية للرواية، فقد تمسك بأمانة النقل ودقة الترجمة، وقام بتبسيط اللغة وجعلها شيقة ومثيرة للذهن وللعواطف، بطريقة تتملك مشاعرك، تقتحمك وتسيطر على كيانك، وتحفظ خلايا التفكير في عقلك.
أورا
تُعد “أورا” رواية قصيرة بمثابة أحجية كبيرة تصهر الواقع مع الفنتازيا بتمكن كبير، كتبها الأديب المكسيك العظيم “كارلوس فوينتس” والذي يعد مؤلف “ميلان كونديرا” المفضل، مكونة من 60 صحفة فقط، ولكن من فرط جمالها صنفت كرواية استثنائية في تاريخ الآدب اللاتيني. وعلى الرغم من قلة حجمها فالرواية ليست سهلة على الإطلاق، استخدمت طريقة السرد بالضمير المخاطب، وهي قطعة من العذوبة والجمال الحزين، تجلت فيها عدة معاني متلاحمة، الشباب والشيخوخة والزمن والحياة والموت والحب والجمال والرغبة والزهد والعزلة والإغواء.
وقد اعتمد فيها الكاتب على مزج الحقيقة بالخيال، والحاضر بالماضي، والوهم بالواقع، والحلم بالكابوس، مع قدره القارئ على التنبأ بالأحداث، وتأويلها ووضع تفسيرات لها، وتوريطه داخل النص الآدبي وتساؤلاته ومحاولة البحث عن إجابات، ليجد القارئ نفسه يقف من صفحة لأخرى؛ حتى يتأكد أن ما استنتجه مطابق للحقيقة أو الخيال على حد السواء.
تدور أحداث الرواية في قصر فخم مقبض متآكل، تسكنه الكآبة والعتمة، حول سيدة عجوز تحاول نشر مذكرات زوجها الجنرال الراحل، ويعيش معها مديرة المنزل الشابة الجميلة “أورا”، إلى أن تنشر العجور إعلان بالجريدة تطلب فيه مؤرخ شاب لكتابه المذكرات، فيتقدم الشاب “فيليبه مونتيرو” لنيل الوظيفة، وتتوالى الأحداث بين الثلاث شخصيات.
وظهرت فيها عظمة “صالح علماني” في قدرته على تكثيف المعني المراد إيصاله للقارئ في تعبيرات وتركيبات سليمة، مع قدرته على وصف المشاعر والأجواء العامة للقصة بلغة شاعرية بديعة خدمت الغرض الأساسي للنص الأصلي، مع الوصف والتشبيه وقلة الشخوص فيه.
كانت هذه مجموعة من الروايات القصيرة، التي قام “صالح علماني” بنقلها إلى العربية عن الإسبانية، والتي تعد مدخل رائع ومناسب جدًا للمبتدئين في قراءة الآدب المترجم للتعرف على الإبداعات التي كتبت باللاتيني وبالإسباني، ونقلت للعربية بفضل هذا الرجل.