رواية «ست أرواح تكفي للهو»

للاكتشافات الجديدة متعة خاصة، لا سيما إذا جاءت من تربة إبداعية خصبة، ومن عالمٍ مغاير عن التقليدي المتعارف عليه في عالم الكتابة الروائية.

في رواية «ست أرواح تكفي للهو» للروائية الشابة «دعاء إبراهيم» تجريب من نوعٍ خاص وبناء لعالم يمزج بين الواقع والفانتازيا وعوالم الأرواح والهلاوس والهذيان، قد يظن القارئ لأول وهلة أنه إزاء واحدةٍ من روايات الرعب السطحية التي أصبحت منتشرة منذ أعوام، ولكن المفاجأة أن ذلك العالم تم استدعاؤه والتعامل معه وصياغته بطريقة أدبية ذكية، وعبر سردٍ مسترسل شيق، يجعل القارئ متعاطفًا مع بطل/أبطال العمل وعالمه بشكلٍ كبير.

والرواية ليست الأولى لصاحبتها، فقد سبق أن صدر لها مجموعتان قصصيتان، ونوفيلا بعنوان «لآدم سبع أرجل»، ولكن يبدو أنها استطاعت أن ترسّخ قدميها في عالم الكتابة الروائية أكثر في هذه الرواية الأحدث، الصادرة مؤخرًا عن «منشوارت إبييدي».

والتي نتعرّف فيها على بطل الرواية القاتل مشتت الذهن والأفكار، والذي تستدرجنا الكاتبة للتعرف على عالمه ودوافعه لهذه الجريمة بطريقة هادئة، حتى ندخل إلى عالمه لنتعرّف على علاقته بزوجته وأمه وابنته، وما الذي يمكن أن يدفعه للقتل، بل تتسّع الدائرة أكثر من ذلك وتتعقّد لنتساءل: هل قتل فعلاً؟

لا أدري من أين تهبط مئات الأفكار إلى جسدي الواهن، تستغل عجزي الكامل وهشاشتي، تتحرّك على جلدي وتغوص في الحفرة، أتوحّد معها، مع آلاف المشاهد التي تتحرّك أمام عيني، مشاهد عشتها، مشاهد أخرى لم أعشها، أشارك أبطالها الحديث، ومرات كثيرة أكتفي بمراقبتهم من بعيد كراوٍ عليم بكل شي لا يتوقف عن التفكير، أرى أمي وزوجتي يتشاجران حول ابنتي الرضيعة، لم أكن موجودًا مع ذلك لم أسلم من ألسنتهم، يذكرونني بالسوء في غيابي! أرى صاحب محل الأثاث يتحرش بالفتيات العاملات، رغم أني لم أتعامل معه من قبل سوى في أمور البيع والشراء، لم أرَ منه ما يدل على فعله الخسيس! 

بطل إشكالي وأشياء تتكلم

منذ السطور الأولى نحن إزاء بطل إشكالي بالتعريف الذي وضعه الناقد جورج لوكاش، إذ نحن إزاء بطلٍ يحمل عددًا من القيم والأفكار والمشاعر الخاصة به، ويواجه المجتمع بمفرده، لا يتمكن من فرض سيطرته على أحد، ويضيع وسط جماعته، حتى أمام زوجته التي أحبها في يوم من الأيام، تنقسم حياته بين الخوف من جريمة ليس متأكدًا من ارتكابها، وشعوره بأن هناك من يراقبه، وهناك من يضطهده باستمرار، ذلك الشعور الذي يصل به إلى مستشفى المجانين!

نتعرف في الرواية أيضًا على أشياء ذات صلة وثيقة ببطل الرواية (الذي لا نعرف له اسمًا) ويبدو أنها قادرة على التأثير والفعل والحركة، حتى أن الكاتبة تفرد لها فصولاً خاصة، بل وتسلمها دفة الحكي والرواية، لتكشف لنا جوانب أخرى من عالمها الخاص في البداية، وما يتقاطع بعد ذلك بين عالمها وعالم البطل، فالعصا تتكلم وتحكي حكايتها، وكذلك المرآة تمسك زمام المبادرة وتحكي لتعكس لنا حقيقة بعض شخصيات الرواية باقتدار، كما يظهر الظل بين حينٍ وآخر ليحكي أيضًا ويسرد جزءًا من التفاصيل، ولعل الجدير بالملاحظة في سرد الكاتبة لعوالم هذه الأشياء أنها تأخذ من شخصية بطل الرواية، فهي أشياء لا تملك قدرةً على التأثير والتغيير بمفردها، بل تستجيب رغمًا عنها لكل ما يفعلونه بها!

تقنيات سردية شيقة

من جهةٍ أخرى يعكس البطل وتلك الأشياء المختارة بعناية لكي تعبر ناصية السرد وتحكي لنا تفاصيل الحكاية حالة الاستلاب التي تعبر عنها الكاتبة باقتدار، والتي تهيمن على تفاصيل عالم الرواية بالكامل، وقدرتها على تصوير ذلك العالم السوداوي الذي يتأرجح بين تفاصيل واقعية عديدة وبين عالم الهلاوس والفانتازيا، وقد استعانت الكاتبة على ذلك بتقسيم الرواية إلى 27 فصلاً قصيرًا مرقمة يحمل كل فصلٍ منها عنوانًا خاصًا، وقد يبدو أنها في ذلك تستعين بتقنيات المتتالية القصصيّة التي تمكنها من تجميع شتات حكايات مختلفة ونسجها في رواية/عملٍ واحد.

لا أدري سوى أن حكايتي باتت خطيرة، لا أتذكر الآن من الذي ربطني على قطعة حديد ببعض الحبال ليستقيم عودي، ولا كيف وقعت في يد شيخٍ استخدمني لتخويف الأطفال في الكتّاب؟ انتقمت من هؤلاء الأوغاد وعلمتهم كيف يتسلقون كالقرود! أحببت صوت بكائهم حين يتلجلجون بالآيات، أهمس في أذن شيخي: انظر لم يحفظوها جيدًا، وحدًا لله أنه كان أبله مثل هذا المعتوه الذي يصر أن أحكي له حكاية قبل النوم: كان ياما كان في سالف العصر والأوان، كان هناك عصا تعيش فترة المراهقة في يد مدرس الجغرافيا الذي لم يكن يعرف شيئًا عن العالم.

استطاعت دعاء إبراهيم أن ترسم عالم بطل الرواية، وأن تنقلنا ببراعة داخل إطار التشويق والإثارة من حكاية القتل التي بدأت بها الرواية إلى تفاصيل أخرى أكثر إثارة وغرابة، وأن تجمع فيها بين أسئلة عديدة في علاقة ذلك البطل بمجتمعه والناس من حوله، وكيف كان أثر ذلك عليه، وكيف حولته طريقة التعامل العنيفة والغريبة معه إلى شخصٍ سلبي خائف ممن حوله، يشعر أنه مراقب على الدوام، ويحلم بقتل كل من حوله، بل ومن يدري ربما يتحوّل إلى قاتل بالفعل!

انتقلت الرواية من خلال صوت الراوي وعبر تقنية التداعي الحر إلى أماكن مختلفة، فرأيناه يتحدث عن سنوات دراسته الجامعية، وعن انتقاله للعيش في القاهرة، وعن حارته علاقة الناس به فيها وجيرانه، كما حفلت الرواية بالقطط وما تحمله من أرواح وما يعتقده الناس فيها، نهاية بعالم مستشفى المجانين/ «المورستان» والمرضى فيه، جاءت كل تلك الانتقالات انسيابية وبشكلٍ مدروس، مما أعطى للرواية قدرًا من الحيوية مع أجزاء التشويق التي تحفل بها. 

يبقى في النهاية أن الكاتبة لم تضع بطل روايتها في مواجهة العالم والشخصيات بشكلٍ حدي، كما يحدث عادة في روايات من هذا النوع، التي تعرض لموقف البطل من الآخرين الذين نقموا عليه، بل يبدو البطل من جهةٍ أخرى مضطربًا نفسيًا للدرجة التي تجعلنا نفكّر في تأويلات أخرى للرواية التي تتسع تفاصيلها وعالمها لأكثر من قراءة وأكثر من تأويل.

دعاء إبراهيم روائية وقاصّة وطبيبة سكندرية، وصلت مجموعتها القصصية «جنازة ثانية لرجل وحيد» إلى القائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2015.

صدر لها رواية «لآدم سبع أرجل» عام 2018، وهذه هي روايتها الثانية.


كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.