الدولة المستحيلة .. الإسلام والسياسة ومأزق الأخلاق الحداثي

الدولة المستحيلة .. الإسلام والسياسة ومأزق الأخلاق الحداثي

الكاتب: وائل حلاق

يتأسس كتاب «الدولة المستحيلة» على فرضية قوامها أن « مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق، وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة» (ص19). الفرضية في جزئها الأول تبدو باعثة على الصدمة، والاستنكار، ولكن ينبغي ألا نسارع إلى الحكم قبل أن نتأمل الجزء الثاني، ونعني سياق تعريف «الدولة الحديثة» التي تنهض على مستويات إجرائية ومفاهيمية مغايرة للحكم الإسلامي، الذي امتد لقرون على أجزاء واسعة من ثلاث قارات. الكتاب يحاول أن يحلل هذا الشكل من الحكم وقدرته على العودة، ولكن في ضوء المفاهيم والتّمثيلات المعاصرة للدولة الحديثة التي تدين في معظمها للغرب. كتاب «الدولة المستحيلة؛ الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي» صادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة 2013، وجاء في (253) صفحة من القطع الكبير، مؤلف الكتاب وائل ب. حلاق مواليد مدينة الناصرة 1955، وهو باحث وأكاديمي فلسطيني، يحمل الجنسية الكندية. سبق لحلاق أن درّس في بعض الجامعات الكندية، وحالياً يعمل أستاذاً للإنسانيات والدراسات الإسلامية في قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا. للمؤلف العديد من الكتب والدراسات في الفقه والشريعة الإسلامية، بوصفه متخصصاً بالدراسات الفقهية. هذه الخلفية الأكاديمية تؤهل الباحث للاطلاع على سياقات نشوء الدولة الإسلامية، وأشكال الحكم التي ناقشها في كتابه الذي ترجمه الأكاديمي المصري عمرو عثمان. قبل الشّروع في عرض فرضية الكتاب، ومسالكه البحثية، لا بدّ أن ننظر في الدوافع الكامنة وراء تأليفه، ومعظمها ينطلق من الواقع العربي الحضاري، الذي يبدو عالقاً في أزمة فكرية عميقة، ولاسيما في ما يتعلق بشكل الدولة، ومستوياتها المتعددة، فبعد أن قام الاستعمار مع بداية القرن التاسع بفكفكة النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي كانت تنظمه الشّريعة هيكلياً ما أدى إلى خلل في العلاقة الناظمة بين هذين المستويين، فالشريعة فقدت دورها لتتحول إلى مصدرٍ لإضفاء الشّرعية على نسق الدولة الحديثة التي قبل المفكرون المسلمون مفهومها القائم على مركزية المدينة، أو القومية، مع الحرص على وجود مرجعية الشريعة (ص19)، غير أن حلاق يرى أن هذا المسلك ينطوي على تناقض ذاتي، من منطلق أن المسلمين يعانون من مأزق الحداثة، وبحثها عن حلول أخلاقية لمشكلاتها، كون فلسفة الحداثة تفتقد في الأصل لهذا البعد (الأخلاقي) لكونها تتبنى منظورات، وآليات تناقض البنية الأخلاقية النموذجية، فالحداثة قائمة على الاستبداد السياسي والاقتصادي والتدمير للمصادر والبيئة، كما يشير حلاق (26). لا يتجاهل الفصل الأول الذي حمل عنوان «مقدمات» قدرة المسلمين على حكم أنفسهم، وإنشاء إمبراطورية حضارية شاسعة، غير أنه سرعان ما يتوصل إلى نتيجة مفادها أن الحكم الإسلامي كان قائماً على مفاهيم وفلسفات مغايرة تماماً لمفهوم الدولة الحديثة المعاصرة، فلا وجود للدولة القومية القائمة على تحقيق أكبر قدر من الفائدة، وهذا بدوره يفرز أشكالاً من الصراع؛ مما دفع الغرب للبحث عن تصورات أخلاقية للخروج من هذا المأزق، وهكذا ما فتئ المفكرون والفلاسفة الغربيون يبحثون عن هذا السند الأخلاقي لنموذج الدولة الحديثة، ولكن عبر طروحات دنيوية تعود في بعضها لأرسطو وأفلاطون وتوما الأكويني (ص36)، هذا المسعى استهدف خلق نموذج مركزي يمكن من خلاله أن تُحل كافة إشكاليات النطاقات الثانوية، كما لاحظ حلاق عند مناقشته لأفكار كارل شميث الذي أحال البحث عن النموذج إلى أفكار مثقفي عصر النهضة مثل هوبز، وفولتير، واسبينوزا، وكانط، وهيغل وغيرهم. على مستوى الدولة الإسلامية، فإن الأمر مختلفٌ، إذ أن الحكم الإسلامي وجد نموذجه المنجز في الشريعة الإسلامية التي شكلت مصدراً له، فقد كانت قادرة على حل كافة الفروقات، والاختلالات التي تنشأ في الأطراف (النطاقات الثانوية) نتيجة نزعة «المجاهدة الأخلاقية» (الجهاد) لتجاوز الرغبة بتحقيق أكبر قدر من المصلحة. هذه المنظومة يقابلها ما طرأ في الغرب من استدعاء للنموذج التنويري الأخلاقي النموذجي، هذا المسلك في مجمله أقرب إلى ماضوية ينتقدها حلاق، لكونها تحاول أن تستعيد ممارسات ومؤسسات ما قبل الدولة الحديثة، وذلك اتكاء على وجهة نظر ماكنتاير، الذي يؤمن بأن الغرب في استناده لمفهوم التقدم قادر على حل جميع المشاكل التي تواجه الدولة الحديثة، ولا سيما ذات الطابع الغربي التي تعدّ (مصدر الحضارة) كما نقرأ في أدبيات الغرب المتمركزة حول الذات، وهذا ما ينتقده حلاق لطابعه الاستشراقي، فالنظرة الغربية تزدري أي معيار أخلاقي لا يستند إلى تصورات الغرب وأفكاره، ومع ذلك، فإن حلاق يرى أن استدعاء نموذج الحكم الإسلامي يبقى مشروعاً، كونه ما زال حاملاً للمبادئ الأخلاقية العظمى التي لا يمكن لها أن تبيد، على الرغم من فناء المؤسسات والأشخاص. الفصل الثاني حمل عنوان «الدولة الحديثة»، وفيه نقرأ بحثاً حول مفهوم الدولة الحديثة في نطاق التصورات الغربية، بيد أن هذا المفهوم يتلون تبعاً لتعدد آراء المفكرين الغربيين، ومع ذلك، فإن هذا التنوع يتصل فقط بالمضامين، في حين أن شكل الدولة يبقى قائماً، فالدولة الحديثة تتحقق بشكلها، أو هيكلها، وآلية عملها ونظامها، فالدولة يمكن أن يحكمها اشتراكيون وليبراليون ومحافظون وغيرهم، ولكن هذا العمق الفكري، وتحوله لا يأتي على شكل الدولة التي تحتكم إلى شروط محددة، أو خواص يرى الحلاق بأنها هي التي تقيم الدولة بوصفها نظاماً ميتافيزيقاً، هذه الخواص تتمثل بالتجربة التاريخية، وسيادة الدولة، واحتكار التشريع، وجهاز الدولة البيروقراطي والهيمنة الثقافية (ص 63). إن الهدف من تحليل خواص تشكل الدولة، يأتي من رغبة الكتاب بالكشف عن مدى صعوبة مواءمة مفهوم الدولة الحديثة للفكرة الإسلامية التي تنهض على مفاهيم مغايرة تماماً، وتتكئ في مجملها على فكرة الحكم الإسلامي القائم على البعد الأخلاقي، وليست كالدولة الحديثة التي هي عبارة عن تشكيلات لجماعات تمتلك مصالح متعددة. كما يناقش حلاق معمقاً في الفصل الثالث، الذي يقودنا فيه إلى مناقشة فكرة الدولة الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات في الدولة القومية، ولكن الباحث سرعان ما يكشف عن مواطن التفكك لهذا التوجه، كونه يقف على النقيض من فلسفة الحكم الإسلامي القائمة على الأسس الأخلاقية والقانونية والسّياسية والاجتماعية، وبهذا فإنه لا وجود لدولة إسلامية، إنما حكم إسلامي، فالدولة الحديثة عبارة عن بنية معينة من العلاقات التي تتميز بوصفها خاصية معينة، كما أنها تنمّ عن سوء فهم للاختلافات البنيوية بين الدولة الحديثة، وأسلافها، ولا سيما الحكم الإسلامي (ص105). في الفصل الرابع نقرأ بياناً للحدود بين كل من القانوني والأخلاقي والسياسي، ولكن أهم ما يمكن أن يقال في هذا الفصل، ما يتعلق بتشكل الذات التي تُصاغ من قبل الدولة الحديثة، في حين أن الحكم الإسلامي الذي يقوم بصوغ هوية مغايرة، أي أنها تنهض على ما هو مناقض للسياسي، فالدولة الحديثة تطلب من الفرد التضحية لصالح الدولة، في حين أن هذا المفهوم لم يكن موجوداً في الحكم الإسلامي، كونه خياراً فردياً، لأنه يستند إلى دعامة أخلاقية للذات الجمعية، ولهذا كانت الشريعة معنية بالمجتمع، ولم تكن معنية بالسياسة، فالفعل كان نتيجة توصيات أخلاقية أملتها الشريعة، وليس نتيجة نزعات وضعية، تقوم على مفاهيم كالمواطنة والتضحية ( 186)، وهنا تتبدى الفروقات الجوهرية العميقة. فالدولة الحديثة تقيم نظاماً يتطلب استهلاك الفرد لصالح المؤسسة، في حين أن الحكم الإسلامي يتكون من تخلل القيم في فضاء المجتمع القائم على وحدة الدافع الأخلاقي المنوط بالفرد لصالح الكل، الذي يتجلى بوصفه ذاتاً جمعية تستند إلى قيم لا دنيوية. وبينما نطالع الفصل الخامس، نواجه ذلك المفهوم الذي ينقله حلاق عن الذات السياسية، والتقنيات الأخلاقية لدى الذات كي تتمكن من التأقلم داخل النظام الاجتماعي للدولة، ولكن ذلك يحضر في موازاة ما وجد لدى المسلمين قديماً، وهنا يتكئ الباحث على طروحات الغزالي في ما يتعلق بإخضاع الذات عن طريق المداومة على العبادة، كونها تكليفاً أخلاقياً، وهذا ما يذهب إلى تعميق تلك المفارقات المفاهيمية بين إنسان الدولة الحديثة وإنسان الحكم الإسلامي، وهذا يمضي بنا إلى نتيجة مفادها استحالة قيام أو تكوّن دولة إسلامية في شكل الدولة الحديثة، وذلك نظراً لاختلاف بنيوي عميق بين الحالتين، كما يوضح الفصل السادس، الذي يبحث في تحديات العصر المُعولم الذي يبنى على مفاهيم القوة العسكرية للإمبراطورية، والتغولات الثقافية والرأسمالية التي تنذر باجتياح إجرائي ومفاهيمي، بل ومعرفي أيضاً، وهذا يتطلب البحث عن وسائل لدحر هذا الطوفان الغربي، ولعل التحدي الأكبر يتحقق في المجال الاقتصادي والثقــــافي وغـــيره، فلا بدّ من فهم عميق لهذه المستويات، وتطوير وسائل لمقاومتـــها، ولكن يبقى المجال رهين البعد الأخــلاقي الذي يمـــيز الحكم الإسلامي وفكره، وهو تحـــد كبير حيث يتطلب بعض التضحية من أجل مقاومة الشركات الرأسمالية، غير أن ذلك يبدو بعيد المنال في الوقت الراهن، ولعل هذا من شأنه أن يتيح استمرار هيمنة بعض المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي، مما يعني مواجهة مع النموذج الإسلامي القائم على العدالة. يعمد الفصل السابع إلى وضع خطة عمل، أو اقتراح خطة لمواجهة التحديات التي تواجه نموذجية الدولة الإسلامية، أو الحكم الإسلامي، التي تشكل الشريعة قلبها النابض، والتي ما زالت تشكل الشوكة التي توجع الاستعمار الذي يتطلع إلى اقتلاعها، ومع ذلك فهي ما زالت صامدة، على الرغم من اندثار مؤسساتها وشخوصها، ولكن هذا لا يحول دون تبني تصورات جديدة، ولا سيما في ما يتعلق بمدى تحقق الدولة الإسلامية، مع ضرورة البحث عن أشكال جديدة للحكم، وبناء مؤسسات جديدة في ضوء فهم وصوغ قواعد للشريعة، بالتجاور مع تقديم تصور للمجتمع السياسي (295). وفي الختام، يطالب حلاق بالحوار مع الغرب، في ما يتعلق ببناء أو تشكيل أخلاقيات حديثة، ربما تتوافق مع بعض النزعات والاتجاهات الغربية التي تبحث عن نظام أخلاقي، كما يتضح من نقدهم لمجتمعات ما بعد الحداثة، لنصل في الختام إلى مقصدية الكتاب عبر الدعوة للتركيز على ثنائية (النقد والبحث) عن مشترك أخلاقي قادر على أن يجمع البشر على اختلاف دياناتهم.



لا تنسى تحميل تطبيقاتنا

  • - تحميل الكتب إلي هاتفك وقرائتها دون الحاجة إلي الإنترنت
  • - تصفح وقراءة الكتب والروايات أون لاين
  • - متعة الإحساس بقراءة الكتب الورقية
  • - التطبيق مقدم مجاني من مكتبة الكتب

اقرأ أيضا