بين الحين والآخر، وبين طوفان الكتب المتناثرة والكتّاب مختلفي التوجهات والمشارب، يدور عددٌ من الأسئلة الهامة المتعلقة بالكتابة الإبداعية، الكتابة الجادة، وأهميتها، وجدواها، وكيف ينتقل القارئ الشغوف إلى مرحلةٍ يتأكد فيها أنه قادرٌ على نقل أفكاره والتعبير عن نفسه أو عن العالم من حوله من خلال تلك الطريقة السحرية الآسرة، التي يبدو أنها لا تزال مؤثرة وذات مكانة وحظوة بين الناس، رغم كل ما تمتلئ به حياتهم من مظاهر سيطرة عالم المادية وتوحشه.
من هنا تأتي الحاجة مثلاً إلى ورش الكتابة التي انتشرت في الفترة الأخيرة، وتنوّعت بين ورش كتابة متخصصة وحرّة، ومن هنا أيضًا جاءت الحاجة إلى توفير عدد من الكتب التي تتناول عملية «الكتابة» نفسها بشكلٍ نظري يسهم في وضع أسس وقواعد وخطوات لمن أراد أن يسير على هذا الدرب سواء كان غرضه الشهرة والصيت وأن تحقق كتابته المبيعات الهائلة، أو من جهة أخرى أن يتمكن فقط من كتابة أفكاره ورسم خيوط عالمه وتقديم رؤاه إلى العالم حتى ولو لم يقرأها في النهاية إلا بعض الأصدقاء.
نحاول هنا أن نستعرض عددًا من الكتب الهامة حول مجال الكتابة بشكلٍ عام، ونجمع بين تلك الكتب التي اكتفت بكونها دليلاً ومرشدًا للكتابة، وبين الكتب الأخرى التي يمكن أن تكون محفّزة وملهمة للكتابة بشكل أكثر تأثيرًا وفعالية.
يأتي في مقدمة هذه الكتب مثلاً الكتاب الصادر مؤخرًا عن مؤسسة هنداوي «الحكاية وما فيها» للروائي المصري «محمد عبد النبي»، ويُعد هذا الكتاب خلاصة تجارب وورش عمل قدمها الكاتب على فترات متباعدة، وحاول أن يجمع فيه عددًا من الأفكار الهامة بل والمؤلفات الهامة أيضًا حول عملية الكتابة من بداية الفكرة وكيف تتشكّل مرورًا بتفاصيل الكتابة الدقيقة من اختيارٍ للشخصيات إلى صبرٍ على استخدام الأدوات وإعمال الخيال.
ويتناول الكتاب كذلك عددًا من الأوهام الشائعة حول «حرفة الكتابة»، فيتعرّض لأسطورة «الطقوس الخاصة بالكاتب» وأن على الكاتب أن يخترع طقوسه وأدواته الخاصة، ولا يعتمد على طريقة أخرى ذكرها كاتب ما، كما ينصح مثلاً بأن تكون الكتابة بعيدة عن كل ما يشتت الذهن لاسيما وجود إنترنت في جهاز الكمبيوتر.
والجميل في كتاب «الحكاية وما فيها» أن في نهايته يستعرض «محمد عبد النبي» مع قارئه عشرة كتب من الكتابات المترجمة الهامة في هذا المجال، فيبدأ بكتاب يوسا الشهير «رسائل إلى روائي شاب»، وكتاب «تقنيات الكتابة الروائية» لنانسي كريس الذي يعده دليلاً شاملاً مبسطًا نحو رسم الشخصية واختيار أنسب وجهات النظر لكل حكاية، كما يشير إلى كتاب «الرواية اليوم» لمالكوم برادبري، وكتاب «تقنيات الكتابة» وغيرها، كذلك نجد في النهاية ملحقًا بنصائح خاصة بكتابة السرد من عشرين كاتبًا محترفًا.
من جهة أخرى وجدنا عددًا من الكتب والكتابات التي يمكن اعتبارها ملهمة ومحفّزة للكتابة، وهي تلك الكتب التي تتناول الكتابة من وجهة نظر مبدعيها، ويأتي عرضهم لمشكلاتها وحكاياتها من خلال مقالات أو رسائل يبثون فيها أفكارهم ورؤاهم، والتي تفتح للقارئ آفاقًا أخرى وتكشف عن المسكوت عنه في عوالم الكتابة وتفاصيلها الثريّة.
ولعل الروائي السوداني «أمير تاج السر» من أبرز الكتّاب الذين يهتمون بتقديم تلك العوالم ورصدها والكتابة عنها وعرض تفاصيلها بشكلٍ مستمر، لاسيما وقد صدر له في هذا المجال ثلاثة كتبٍ حتى الآن هي؛ «ضغط الكتابة وسكرها»، و«ذاكرة الحكائين»، وأخيرًا «تحت ظل الكتابة».
تتضمن هذه الكتب عرضًا سريعًا وبطريقة شائقة لعدد من طرائف الكتابة وأسرارها وعالمها.
ففي ذاكرة الحكائين مثلاً يتحدث عن استخدام اللغة في الرواية، وانتقالها بين العامية والفصحى مثلاً، كما يتعرض لكيفية انتقاء شخصيات عمله الأدبي، وعلاقة ذلك بالواقع الذي يستقي منه أغلب شخصياته، كما يتوقف عند عدد من الكتب والإصدارات الهامة في مجال الكتابة الإبداعية على وجه التحديد، ويتحدث عن «مهرجان اقرأ» الذي تنظمه شركة «أرامكو السعودية» في طهران، ويحلم أن يرى مشروعًا مثيلاً له في كل بلدان العرب.
يتحدث مثلاً عن كتابة الرواية فيقول:
تأخذ الرواية من الواقع والخيال في الوقت نفسه، نعم الرواية صنعة، وتزداد تلك الصنعة تعقيدًا في كل يومٍ، ومهما استسهل الناس في كتابتها، وأصبحت أول ما يخطر على بال الإنسان بعد أن يكمل طفولته هو أن يكتبها، تظل محصورةً على موهوبين، عرفوا الصنعة وأجادوها.
كتابٌ آخر لا يمكن أن أنساه في هذا الصدد، لم يتحدث عن الكتابة بشكل مباشر، وإنما نقل إلينا الحالة التي تتلبّس الكاتب معها، ومع القراءات المتعددة التي تشكل مصدرًا لا غنى عنه للمعرفة والإجادة؛ هو كتاب الروائي «عزت القمحاوي» الذي أسماه «كتاب الغواية»، والذي أجاد فيه وصف الكتابة وحالة القراءة وذلك العالم المغوي الجميل، وذلك من خلال رسائل افتراضية يرسلها إلى حبيبته، ويتبادل معها أراءه وأفكاره حول الكتابة.
وهو إذ يفعل ذلك ينتقل باستمرار من العام إلى الخاص، ولعل ذلك ما يمنح كتابه خصوصية في هذا المجال، فهو يورد طرفًا من ذكرياته مع القراءة وأوائل الكتب التي أثرت في حياته جاعلة لها تلك المكانة الخاصة فيما بعد، كما يتناول وبأسلوبه الأدبي الشيق أمرًا مثل «ترتيب الكتب في المكتبة» ليستعرض عددًا من الكتب والمؤلفات الهامة التي شكّلت وعيه وأصبحت فارقة في مسيرته الأدبية:
من حسن حظ البشريّة أن وجدت من يبدع قصصًا بهذه العذوبة، يمكنها أن تؤنس المتوحدين والمتوحدات، ممن يفتقدون الفرصة في العثور على شريك، وكبار السن الذين يفتقدون القدرة على المشاركة، وما كان لهذه القصص أن تعيش لولا ما تنطوي عليه من نقصان، تدعو القارئ إلى إكماله، وهذا هو وجه التشابه الأعمق بين القراءة وفعل الحب «المشاركة».
ولعل أكثر ما تتميّز به تلك الكتابات هو كونها تجمع بين شروط الكتابة وأدواتها النظرية مع إضاءات وتلميحات لتجاربهم الخاصة في الكتابة من جهة، ولعددٍ من الإشارات الدالة للكتاب الذين تأثر بهم أو قرأ لهم في استخدامهم لعدد من تقنيات الكتابة التي قد ينجحون في استخدام بعضها أو يخفقون في استخدام البعض الآخر.
ولذا لم يكن غريبًا أن يأتي ذكر «ألبرتو مانغويل» في الكتابين إذ هو «الرجل الذي بنى شهرته لكونه قارئًا» على حد تعبير القمحاوي، ويركز الاثنان على كتابه الشهير «تاريخ القراءة» الذي يأتي فيه عرضٌ وافٍ لطرق «ممارسة القراءة» قديمًا، والأدوات المساعدة لكي تتم القراءة بمزاج جيد، إذ كان لديهم مقاعد خاصة وجلسات متعددة ، وهو ما يذكر «بطقوس الكتابة» وما يتناوله الكتّاب في هذا الصدد.
كل هذا بالطبع بالإضافة إلى أنهم يطرحون عددًا من القضايا والمشكلات الخاصة بالكتابة الراهنة، لا سيما ما يتعلق منها بسوق النشر، إذ نجد عند «عزت القمحاوي» مثلاً إشارة إلى الكتب التي تعتمد على تجميع الكاتب لمقالات مختلفة ووضعها في كتاب واحد، فهو يرى في ذلك طريقة غير منطقية لتأليف الكتب، يأتي ذلك في معرض حديثه عن كتابٍ استثنائي في هذا المجال هو كتاب «من شرفة ابن رشد» لعبد الفتاح كليليطو.
كما يشير إلى موضوع التأثير والتأثر بين الآداب العربية والغربية والكتابات النقدية التي تتناول عملاً هامًا (مثل «عوليس» لجيمس جويس) وأثرها على كتّاب جيله، كما نجد عند «أمير تاج السر» إشارات متكررة لقضية غياب «الوكيل الأدبي» في عالمنا العربي وحديثًا عن دوره وأهميته.
كما يتطرق لقضايا معاصرة مثل الجوائز الأدبية في العالم العربي وعلاقتها بالإبداع، ومسألة الكتّاب المشهورين «كتاب البيست سيلر» وأثرها في خلق موجة جديدة من القرّاء قد يكون لها تأثير وفعالية لدى بعض دور النشر مما يدفع إلى استغلالها بطرقٍ مختلفة باستمرار، كما يتحدث عن ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأجنبية وما يدور في دهاليز دور النشر بشأنها، وغير ذلك من القضايا الخاصة بالأدب والثقافة بشكل عام.
هكذا ننتقل بين كتبٍ تحدثنا عن شروط الكتابة وطرق استخدام أدواتها، وبين كتاباتٍ أخرى جرّب أصحابها الكتابة وتمرسوا فيها، وها هم ينقلون لنا بعضًا من أفكارهم وآرائهم فيها، وهذا ما تفعله فينا الكتابة دومًا، تجعلنا ندور حولها، ونسعى جاهدين لاستكشاف عوالمها، تارة بقراءة الكتب والروايات، وتارة باستكشاف أسرار وطرق كتابة تلك الكتب، وتارة أخرى بالتعليق والنقد على هذه الكتب، وإدارة حواراتٍ مع الكتب والمؤلفين ومحاولة الاطلاع على عوالمهم وطرقهم التي تبدو سحرية بعيدة غامضة ولكنها تسهم في خلق العالم وإعادة تشكيله كل مرة أمام آلاف بل ملايين القراء.