منذ بداية الألفية الثانية في القرن الحالي، أي نحو قرابة العقدين من الزمان، أصبح وجود الإنترنت أساسيًا في حياة الناس، ولم يعد مجرد اختيار يمكنك تجاهله ومواصلة حياتك دون التعامل معه، بل تحوّل الأمر في السنوات العشر الأخيرة إلى أساس من أساسيات الحياة، وتحوّلت صفحات التواصل الاجتماعي (فيس بوك وتويتر) وغيرها إلى منصات إعلامية وسياسية تجمع الجماهير وتقيم الثورات وتنشر أخبار الحروب والمصائب في كل العالم.
وكان الأدب – وﻻ يزال- انعكاسًا لكل ما يدور من حوله في المجتمع، ولكن يبدو أن تأثر الأدباء بعالم التكنولوجيا والإنترنت لم يكن حتى الآن كبيرًا، بل اقتصر الأمر في أغلب الأحوال على التعامل مع وسائط التكنولوجيا كتقنيات يمكن إضافتها والتعامل معها في الكتابة الأدبية، فكيف نقل الأدباء تعاملهم مع التكنولوجيا والإنترنت إلى صفحات الكتب والروايات؟
رواية «بنات الرياض»: حجر في المياه الراكدة
في 2005 أطلّت علينا رواية أولى لكاتبة سعودية شابة هي رجاء الصانع بروايتها «بنات الرياض» التي لم تكن مجرد تجربة أدبية عابرة، ولكنها كانت حدثًا ثقافيًا كبيرًا في ذلك الوقت، شغلت وسائل التواصل الاجتماعي (المنتديات والمدونات في ذلك الوقت) وكانت مثار حديث الناس لفترة طويلة، وأثارت الكثير من ردود الفعل بين محبين للرواية ومعارضين وناقمين عليها.
لم يكن ذلك إلا لما عرضته الرواية من علاقات مسكوت عنها داخل مجتمع إسلامي محافظ كالسعودية، ولكن كان اللافت للانتباه أيضًا استخدام رجاء الصانع تقنية البريد الإلكتروني في كتابة روايتها، واعتماد خط سير أحداث الرواية بشكل عام على صفحة رسائل مجموعة بريدية عنوانها «سيرة وانفضحت» يتبادلها مجموعة من الأصدقاء على الإنترنت وتفضح فيها المشرفة على المجموعة البريدية وهي فتاة سعودية حكايات صديقاتها وعلاقاتهم بعدد من الشباب.
كانت المفارقة في رواية «بنات الرياض» أن الكاتبة تنبأت في أحداث روايتها وتفاعل الناس مع هذه الرسائل بكل ما حدث بالفعل مع روايتها نفسها، إذ حققت الرواية انتشارًا واسعًا على صفحات المنتديات الإلكترونية، ونفدت طبعتها الأولى في أقل من شهرين، ومنعت بالطبع من التداول في السعودية، وتم تجريم ما فعلته الروائية في روايتها الأولى، واستضافها المذيع السعودي «تركي الدخيل» في برنامجه «إضاءات». وكل ذلك تنبأت به الكاتبة في تفاصيل روايتها، خاصة ردود الأفعال المعارضة والهجوم الكبير الذي حدث بالفعل.
ضجة
تعمّ الأوساط المحلية، تقف وراءها فتاة مجهولة ترسل نهارَ كل جمعة «إيميلاً» إلى معظم
مستخدمي الإنترنت في السعودية، تفشي فيه أسرار صديقاتها اللواتي ينتمين إلى الطبقة
المخملية، التي لا يعرف أخبارها عادةً سوى من ينتمي إليها. تطل الكاتبة كل أسبوع بتطورات
وأحداث شيقة جعلت الجميع بانتظار يوم الجمعة للحصول عليها. وتنقلب الدوائر الحكومية
والمستشفيات والجامعات والمدارس صباح كل سبت إلى ساحاتٍ لمناقشة أحداث «الإيميل» الأخير،
والكلُّ يدلي بدلوه! أياً تكن النتيجة، فمما لا شك فيه أن هذه الرسائل الغريبة قد قامت
بخلق ثورة داخل مجتمعنا الذي لم يعتد مثل هذه الأمور، وعليه، فإنها ستظل مادة خصبة
للمداولة والحوار مدة طويلة حتى بعد توقف «الإيميلات» عن الصدور.
—غازي
القصيبي عن رواية «بنات الرياض»
وهكذا كانت «بنات الرياض» الرواية الأولى التي تستخدم فكرة وتقنية «المجموعات البريدية» في كتابة السرد الروائي وبنائه، والذي وإن بدا مشابهًا لنمط الرسائل القديم إلا أنه يحوي في طياته تفاعلاً مختلفًا وطريقة استقبال مغايرة.
وقد نجحت رجاء الصانع إلى حدٍ كبير في الجمع بين تأثير الإنترنت على المجتمع والكشف في الوقت نفسه عن خباياه وأسراره.
وكان لنجاح الرواية والصدى الواسع الذي حققته أثر في ازدهار الرواية السعودية بصفة خاصة إذ خرجت بعدها عدد من الروايات تدافع عن صورة المرأة السعودية وتعرض وجهًا آخر لبنات الرياض كما يراه المحافظون، كما شجعت عددًا آخر من الكتاب والروائيين على الحديث عن المسكوت عنه داخل المجتمع السعودي بصورة أكبر.
ولعل النجاح الكبير والصدى الواسع الذي حققته «بنات الرياض»، كان دافعًا للروائي المصري إبراهيم عبد المجيد لكي يكتب روايته «في كل أسبوع يوم جمعة» عام 2009 مستخدمًا فيها نفس فكرة وتقنية الرسائل المرسلة إلى مجموعة بريدية، تقوم بإنشائها الفتاة روضة رياض وتستدرج من خلاله عددًا من الشباب، نتعرف في الرواية على نماذج مختلفة من الشباب المصريين وأفكارهم وطموحاتهم، بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية، نحو 19 نموذجًا استطاع الكاتب أن يعبّر عنهم، وأن يمنح لكل شخصيةٍ منهم عبر فكرة الرسائل دورها للتعبير عن نفسها تمامًا.
كثيرون اعتبروا «في كل أسبوع يوم جمعة» من الروايات التي عبّرت عن الواقع المصري قبيل الثورة بشكلٍ كبير، بل وربما عكست في جانب منها إمكانية تحوّل الغضب المكتوم والتفاعل من خلال التكنولوجيا والإنترنت إلى حالة حراك شعبي عارمة، وقدرة كبيرة على التغيير كما حدث بعد ذلك بسنوات قليلة.
ثورة وسائل التواصل الاجتماعي
مع انتشار التعامل بالإنترنت أكثر، ظهرت منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل: انستجرام، وتويتر، وفيس بوك وغيرها، وظهر أيضًا تعامل الكتّاب والأدباء مع هذه الظواهر التكنولوجية الجديدة، وسعى بعضهم إلى استخدام تقنيات تلك الوسائل في الكتابة الأدبية، أو التعبير عن سيطرتها وقدرتها على اختراق الخصوصية الفردية للمجتمع، من هنا ظهرت روايات أخرى تتناول تلك المواقع ودورها وأثرها على العلاقات بين الناس.
من هذه الروايات رواية «قطط انستجرام» للروائية الكويتية باسمة العنزي التي تناولت فيها صورة المجتمع الكويتي من خلال حكاية يتم الإعلان عنها على إنستجرام في صفحة بعنوان «القطط السمان» التي تحكي وتكشف من خلالها فساد بعض الأفراد أصحاب المناصب العليا الذين لا تتمكن صاحبة الموقع من مواجهتهم.
تمنح الكاتبة أيضًا الفرصة لشخصيات روايتها للتعبير عن أنفسهم عبر تقسيم الرواية إلى أصوات، كل منهم يعرض حكايته بحيادٍ كامل، وربما يكون المختلف في رواية باسمة أنها لم تكتفِ بعرض ما دار على الموقع، وإنما كشفت كيف يمكن لأصحاب النفوذ أن يفرضوا سيطرتهم حتى على تلك المواقع الافتراضية التي اعتقد الكثيرون أنه لا رقابة ولا سلطة لأحدٍ عليها.
من فكرة مختلفة تمامًا انطلق شريف صالح في روايته «حارس الفيسبوك»الصادرة منذ عامين، والتي يركز فيها على الموقع الأشهر في عالم الإنترنت اليوم وهو فيس بوك، ويفترض ماذا لو أفاق العالم يومًا ليجد أن هذا الموقع انتهى تمامًا وتمت السيطرة عليه، من خلال تلك الفرضية يعرض أثر فيس بوك على حياة عدد من الأفراد والشخصيات التي تتعامل مع الموقع بشكلٍ مستمر، ويعكس في الوقت نفسه جانبًا كبيرًا من حياة الناس وطباعها وطريقة تعاملها مع ذلك الموقع الافتراضي الذي أصبح أساسًا من أساسيات حياة الكثيرين.
حياة
كل منّا حسابٌ أزرق كبير، كالذي أصبح محور حياتي وحياة الكثيرين، نتسلمه فارغًا من
كل شيء عدا الأسرة، ثم نضيف إليه. كل ما يشغلنا في البداية أن يصبح لدينا حساب حقيقي
فعًال، نسعد بكل اسم يضاف ونقيس محبوبية الآخرين بعدد من يملكون، تزدحم صفحة المعارف
بمرور الوقت، فنخلط بينهم وبين الأصدقاء، البعض لا يكتشف مطلقًا أن كل من في حسابه
مجرد معارف، حتى وإن ضغطوا زر الإعجاب عشرات المرات أو أضافوا تعليقًا من آن لآخر.
الحساب يحتاج إلى تصنيفٍ أوسع، ثلاثية من سنحتفظ بهم: الأحباب والأصدقاء والمعارف،
وثنائية من ينبغي علينا حذفهم أو حظرهم من حياتنا: الكارهين واللامبالين .
—من
رواية «نسيت كلمة السر»
الذكريات، وصورة البروفايل، صورة الغلاف، الحائط، طلبات الصداقة، المناسبات، صندوق الرسائل، اسم المستخدم، وغيرها من عبارات يتعامل معها مستخدمو فيس بوك بشكل يومي، وكذلك كلمة السر، وانطلاقًا من هذه الفكرة يبني حسن كمال روايته «نسيت كلمة السر»على تلك التفاصيل الخاصة بعالم فيس بوك، وإن كانت الرواية في موضوعها الأساسي تتحدث عن رحلة بطل تايكوندو يشاهد على الحائط أمامه صفحة شبيهة بصفحة فيس بوك عليها كل إنجازاته وذكرياته وعلاقاته وصوره مع أصدقائه وغيرها.
لم تقتصر رواية «نسيت كلمة السر» على استخدام تقنية وتفاصيل فيس بوك ورحلة حياة بطل الرواية فحسب، وإنما تطرق كاتبها أيضًا إلى كواليس حياة الأبطال الرياضيين وصراعات الأندية الرياضية، كما يلقي بالضوء على حياة المجتمع المصري وما حدث فيه من تغيرات في السنوات الأخيرة خاصة بعد أحداث ثورة يناير 2011.
هكذا تعددت رؤى الكتّاب واختلفت في طرق تعبيرهم عن وسائل الاتصال الحديثة، وأثر التكنولوجيا في حياة الناس، حيث استخدمها بعضهم كمجرد تقنية وحيلة لكتابة القصة والسرد، في الوقت الذي تعامل فيه البعض الآخر مع تفاصيل تلك الحياة الافتراضية بشكل أكبر وموسع وكيف أثرت بالفعل على المجتمع والناس.