دوستويفسكي في بلاد العجائب المقدّسة:
يبدأ دوستويفسكي كتابه بقوله :
منذ أشهر عدّة، توحون إليّ، يا أصدقائي، بأن أصف لكم أخيرًا ما أحسستُ به في البلاد الأجنبية، وما تركته تلك البلاد في نفسي من آثار ... فما عساني أكتب أو أحكي من أمور جديدة مجهولة؟ مَن مِنّا، نحن معشر الروس، أعني أولئك الذين يقرؤون الصحف والمجلات على الأقل، لا يعرف أوروبا أكثر مما يعرف روسيا مرتين على أقل تقدير، أقول مرّتين من باب التأدب، ولو قلت عشر مرات لكنتُ أصدق.
كان دوستويفسكي مشغول البال بروسيا طوال الرحلة، يقول:
حين كان يقترب بي القطار من آيدتكونن، كنت أفكّر –ما زلت أتذكر هذا- كنت أفكر في كل تراثنا القومي الذي أبرحه إلى أوروبا، فكان بعض أحلامي يدور حول هذه الأمور، وكنتُ أفكّر في هذا الموضوع بالذات: بأيّة طريقة أثّرت فينا أوروبا في عصور مختلفة محاولة أن تفرض علينا حضارتها دائمًا؟ إلى أي مدى تحضرنا؟ ما عدد الذين أصبحوا منّا متحضّرين؟
هذا الهَوَس سببه أنّ دوستويفسكي -كما أشرنا من قبل- ناقمٌ على النخبة الروسية لأنّها تعرّت من هويّتها وقدّست الغرب سالكةً طريقًا خاطئًا باتّجاه التقدّم.
لكنّ نقمة دوستويفسكي لم تقتصر على بني جلدته فقط، فقد كان ناقمًا أكثر على الغرب أنفسهم، وقد تجلّى هذا في التهكم اللاذع الذي صبغ روايته للمشاهد التي وقف عندها في ألمانيا، إنجلترا وفرنسا، يقول مثلاً بسخرية بالغة:
ها أنذا إذن في باريس!… لا تحسبوا مع ذلك أنني سأحدّثكم كثيرًا عن هذه المدينة. ذلك أنني أقدّر أنكم قد شبعتم قراءة عنها باللغة الروسية، ثم إنكم قد ذهبتم إليها بأنفسكم، فلا شك أنكم لاحظتموها خيرًا مما لاحظتها أنا.
ولكن اعلموا أنني وجدت لمدينة باريس تعريفًا، وأنني زينتها بنعت ما أزال أنعتها به: إنها أكثر مدن الأرض تجملا بالأخلاق والفضيلة. يا له من نظام! يا لها من حكمة! يا لها من علاقات محدّدة وطيدة! إنّ كلّ شيء في باريس مضمون ومرتّب سلفًا، إنّ كلّ الناس في باريس مسرورون سعداء كل السعادة، حتى لقد انتهى بهم الأمر، من حسن نيّتهم وصدق عزيمتهم، إلى الاقتناع بأنهم كذلك حقاً.
فالبرجوازي الباريسي مثلاً يكاد يكون مقتنعًا اقتناعًا واعيًا بأنّه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأنّ كل شيء في هذا العالم على خير ما يرام.
وقد قارن دوستويفسكي بين لندن وباريس، فقال:
هو [ اللندني ] لا يحاول كالباريسي، أن يوهم نفسه، وأن يعزي نفسه، وأن يزعم لنفسه أن كل شيء يجري على ما يرام، هو لا يخبئ الفقراء كما في باريس، مخافة أن يعكر الفقراء صفو نومه وأن يقلقوه.
وقد ركّز دوستويفسكي عمومًا على السلبيات فقط، فوجد أنّ البلاغة الفائقة التي يتباهى بها الفرنسيون مجرّد لغوٍ أجوف، وبالنسبة إليه كل علاقات الزواج البرجوازية مبنية على المصالح المادية، وأنّ لكلّ زوجة عشيقًا وسيمًا تخبّئه تحت السرير.. وغيرها من الصور البائسة عن واقع شعوب بأكملها.
ويميل النقاد والقرّاء عمومًا إلى الاعتقاد أنّ هذا السرد منبعث من شعور دوستويفسكي بالنقص أثناء تجوّله في الشوارع الأوروبية، وليس هذا الشعور متولّدًا عن نقص فردي بل عن إخفاق قومي في مجابهة الغرب ومواكبته، وقد عقّب دوستويفسكي نفسُه على سرديته لانطباعاته عن الفرنسيين فقال:
أنتم تزعمون أنني أبالغ، وأن ما أقوله هو من باب التشنيع الحاقد الذي يدفع إليه التعصب الوطني، ولا يمكن أن يكون صحيحًا، ولكنني نبّهتكم منذ البداية، يا أصدقائي، إلى أنني قد أكذب فأسرف في الكذب، فلا تنزعجوا إذن، ولعلكم تعلمون أيضًا أنني إذا كذبت فليس ينفي ذلك اقتناعي بأنني لا أكذب، وحسبي هذا الكلام!.. واتركوا ذراعيّ طليقتين فلا تغلّوهما.
لذا، فقد تكون الآراءُ والأفكارُ المطروحةُ لا موضوعيةً في بعض الأحيان، إلا أن الكتاب يظل مرجعًا هامًا فيما يتعلّق بإشكالية الحفاظ على الشخصية القومية أثناء السير في موكب التطور العالمي.
و يمكنك تحميل جميع أعمال دوستويفسكي من هنا
هل قرأتم هذا الكتاب أو غيره من أعمال دوستويفسكي؟ شاركونا آراءكم في التعليقات.