المسيد

المسيد

الكاتب: الطيب محمد الطيب

الخلاوي من أهم مورثاتنا الشعبية وأخطرها تأثيراً على ثقافتنا وهويتنا يعتبر كتاب (المسيد) الذي صدر للباحث الطيب محمد الطيب عن دار جامعة الخرطوم للنشر ومن ثم عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر من الكتب المهمة في المكتبة السودانية القائمة على تأصيل الموروث الثقافي الشعبي للسودان ، فهو وبكل المعايير، رائد وغير مسبوق في مجاله. إنه يخطو بنا خطوة متطورة في معالجة التعليم الإسلامي في طبيعته ونشأته وانتشاره في ربوع السودان بصورة واسعة، ويقترب بنا من تأطير التجربة السودانية في التعليم السوداني وطرحها كمنظومة يجب أن توفر لها المقومات التي تجعل منها " نظاماً تعليمياً " متكامل العناصر. لقد تمت هذه التجربة الفريدة للتعليم في بيئة بدائية بالمقاييس الحديثة. بيئة عربية – افريقية زراعية وشبه صحراوية تقوم على اقتصاد الكفاف، وتغطي فترة زمنية سابقة بقرون وأجيال والتجربة تحمل في جوفها خصوصية" التربية الإسلامية " المؤسسة على هدى القرآن الكريم والشريعة المحمدية واجتهاد العلماء والفقهاء المسلمين في عصورهم المختلفة. وفي كتاب "المسيد" نرى هذه التجربة الرائدة في تكاملها وعمقها وانتشارها والتي بدأت في ديارنا منذ أوائل القرن الثامن الميلادي وكأنها تخاطب مجتمعات القرن الواحد والعشرين. إنها تحمل كثيراً من الرؤى والطموحات التي ظلت تنادي بها المجتمعات العصرية ولا تكاد تحققها إلا فيما ندر.. مجانية التعليم ..تعميم التعليم .. تكافؤ الفرص في تناوله..ارتباطه بالبيئة .. قيامه على المنظومة الأخلاقية ...بل إنها وفي كثير من جوانبها وتطبيقاتها العلمية تتجاوز الواقع العصري إلى مخاطبة المستقبل.. حرية الحركة العلمية بإلغاء الحدود الجغرافية بين الطلاب العلم ومؤسساته وأساتذته.. إشاعة التعليم بلا شروط مقيده ولا التزامات عصية. هذه هي الصورة الأساسية التي يحاول كتاب "المسيد" أن يطرحها للقارئ. وهي صورة سودانية أصليه إلى حد كبير. نعلم ذلك من تعرفنا على المؤسسات المشابهة للخلوة، والمسيد، من أقطار عربية وافريقية أخرى وفي الأجزاء التي تناول فيها المؤلف بالوصف المقارن هاتين المؤسستين. فقد تبنى المؤلف في كتابه نفس المنهج الذي أخرج به حيث تحري الحقائق في مظانها المكانية وبوجود المباشر على مسرح الأحداث أو بالاعتماد على المصادر الحية أو المخطوطة خلال طوافه ولقاءاته بأصحاب الشأن. وقد حملت هذه الرحلات المؤلف داخل وخارج حدود البلاد وإلى أقطار عربية وإفريقية إسلامية عدة فهو في المدخل المؤسس مثلاً يركز على الخلوة أو المسيد ويختارها إما لشهرتها أو لعراقتها أو لحجمها ولكنه لا ينسى الوقوف عند مشائخها لا سيما صاحب الفضل الأول في إنشائها ومن جاء بعده من ورثته. هكذا فعل مثلاً وصفه لمسيد ود الفادني ومسيد أم ضبان ومسيد همشكوريب و كما فعل بخلوة الغريبة من دار الشايقية وهي من أعرق وأشهر الخلاوي في شمال السودان. ويشير إلى خلاوي " الغبش "من بربر، وخلاوي " المجاذيب" في الدامر . وقد وقف المؤلف وقفات طويلة عند بعض المجموعات القبلية و التي لعبت دوراً رائداً وبارزاً في نشر القرآن وعلومه في ربوع البلاد وهي قبائل ومجموعات توارثت هذه الرسالة وعرفت بها على مدى أجيال طويلة فهو يبدأ بالمجموعة الدنقلاوية والتي شهدت ديارها إقامة المسجد الأول في السودان ومنه انبثقت المؤسسات الرائدة وعم نورها أطراف السودان وانتشر علماؤها المنحدرون من غلام الله بن عائد وذريته، يتوارثون العلم ، قرآناً وفقهاً وقضاء إلى يومنا هذا . ومنهم أولاد حاج بلول الذين يتشرفون باحتضان أول مصحف في نسخته الخطية الأصلية وقد اعتبره المؤلف من أقدم المصاحف من نوعه والمعروفة حتى اليوم وقد تم الانتهاء من كتابته في يوم الأحد 10 شوال عام 870هـ. ووقف وقفات أطول عند مجموعة القبائل المحسية ووصف دورها التاريخي العريض والعميق في التعليم القرآني ونشره في البلاد احتفاظها بقراءة " ورش" أقدم القراءات القرآنية بالسودان كما عدد بعض أكابر علمائها الذين تألقوا في سماء العلم وتعليمه وحفظه. وكذلك فعل مع الغبش والمجاذيب كما أسلفنا ومع الركابية والصواردة والكتياب الذين اشتهروا دون غيرهم في السودان أو بلاد الإسلام الأخرى بتخصيص مقبرة لحفظ القرآن " لا يفصل بينها أي قبر لم يعرف صاحبه بحفظ القرآن". ويفرد المؤلف أحياناً فقرات مكثفة للحديث عن علم واحد ومن مشايخ القرآن في منطقة أو قبيلة أو علم بعينه " ومن هؤلاء مثلاً الشيخ "أرباب العقائد" والذي يرجح المؤلف أن مسجده الأصلي كان في المكان الذي أقيم فيه المسجد العتيق حالياً (مسجد فاروق) بالخرطوم .. وهكذا ينقل الصورة متكاملة للشيخ العبيد ود بدر. وهو قد يعطي كلاً من المؤسسة وشيخها وبيئتها نصبياً عادلاً من الوصف وذلك عندما أفرد الباب الخامس للمسيد في شرق السودان فجعله قسمة بين مسيد همشكوريب الذائع الصيت في الشرق ، وبين سيدنا على بيتاي ربيب البيئة القبلية والاجتماعية التي تم فيها إنشائها المسيد. ويقف التعليم القرآني في دارفور ثقافة علمية واجتماعية بذاته ونموذجاً لمدخل جغرافي في الكتاب وشاهداً على مدى التغيير الجذري الذي تتعرض له المجموعات التي تستقبله وتقبل عليه بالشوق كما فعلت دارفور – وعندما تذكر الهجرات القرآنية من أدبيات التعليم الإسلامي في السودان ينصرف الذهن إلى المهاجرين من طلاب القرآن من أبناء دارفور إلى مناطق أواسط السودان وحوض النيل ، وكأنها الهجرة الدارفورية ذات اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق، وكأنما لا توجد منافذ أخرى لهجرة أبناء دارفور غير منافذ الهجرة إلى الشمال ولكن الدراسة تصحح هذا المفهوم من وجهين الأول أن الهجرات القرآنية بين دارفور وغيرها من مناطق السودان الأخرى كانت حركة متبادلة فكما هاجر أبناء دارفور إلى الشمال كانت دارفور تستقبل مهاجرين إليها من الشمال لنفس الهدف العلمي. والوجه الآخر هو أن هناك هجرة متبادلة قديمه بين دارفور من جانب وغيرها من أقطار المغرب العربي وقد تكون هجرات دارفور إلى مصر و الحجاز ولا يكون شمال ووسط السودان إلا استراحة مؤقتة لاستئناف الرحلة شمالاً أو شرقاً . ومن أهم إسهامات الكتاب عقدة فصلاً كاملاً عن دور المرأة في تدريس القرآن والفقه وتوثيقه لهذا الدور في الحركة التعليم الإسلامي بعامة في بلادنا. ودور المرأة المسلمة في العالم – تناولاً وعطاءً – ظاهرة شائعة في كثير من البلدان الإسلامية ويؤكد على أن المرأة السودانية ليست بأقل تأثيراً من تطوير التعليم الإسلامي بين النساء خاصة وفي المجتمع بصورة عامة وقد بذل المؤلف جهداً طيباً في جمعه وتحقيقه لتراجم بعض شهيرات النساء ودروهن المتميز في هذا المجال. ويعتبر الكتاب وثيقة علمية وسياحية ثقافية في واحد من أهم مورثاتنا الشعبية وأخطرها تأثيراً على ثقافتنا وهويتنا.



لا تنسى تحميل تطبيقاتنا

  • - تحميل الكتب إلي هاتفك وقرائتها دون الحاجة إلي الإنترنت
  • - تصفح وقراءة الكتب والروايات أون لاين
  • - متعة الإحساس بقراءة الكتب الورقية
  • - التطبيق مقدم مجاني من مكتبة الكتب

اقرأ أيضا