الإدهاش العقلي الجميل عند ستينسلو ليم

وكأن كاتب الخيال العلمي والمستقبليات ستينسلو ليم يعرف جيداً كيف يمكن أن تزحف العوالم الخيالية على الواقع أحياناً.

نشر ليم في عام 1984 مقالاً من سيرته الذاتية بعنوان "المصادفة والنظام" في مجلة "ذا نيويوركر" تحدث فيه عن ذكرياته عندما كان طفلاً وحيداً لأبويه في مدينة لفوف ببولندا، حيث كان يسلي نفسه بصنع جوازات سفر وشهادات وتصاريح ومذكرات حكومية وأوراق ثبوتية مزيفة.

وبعد أن يتسلح بتلك الدمى العجيبة، كان يسافر بمفرده إلى عوالم خيالية "غير موجودة في أي خارطة".

وبعد سنوات، وأثناء فرار أفراد أسرته من بطش النازيين، يذكر ليم أنهم نجوا ذات مرة من الموت بفضل تلك الأوراق المزيفة.

وبدا الأمر كما لو أن لعبة الطفل البريء قد تنبأت بذلك الانحراف التاريخي المريع،  ويتساءل ليم إن كان قد شعر بتربص أزمة ما تلوح في الأفق- كما لو أن تلك اللعبة قد نتجت "ربما عن إحساس لاشعوري بالخطر".

 

وتتجسد فكرة التأثير المقلق لعالم خاص على العالم الواقعي في قلب روايته الأشهر "سولاريس" (1961)، والتي تدور حول محيط واعٍ يملك القدرة على "الغوص إلى أعمق خبايا عقول البشر ومن ثم تجسيد أحلامهم على أرض الواقع" كما وصفه سلمان رشدي، أحد محبي ليم، ذات مرة.

حققت سولاريس شهرة عريضة، فأخرج أندريه تاركوفسكي فيلماً مبنياً عليها في عام 1972 ثم أعاد الكرة ستيفن سودربيرغ في عام 2002 وأعاد إخراجها على صورة قصة حب من بطولة جورج كلوني تعتريها تقلبات المزاج وتقع أحداثها في المستقبل القريب.

وبفضل ذلك كله، بات ليم واحداً من أكثر كتاب الخيال العلمي شهرة حول العالم.

غير أن كتاباته تجاوزت حدود هذا الطراز الأدبي إلى بشكل كبير.

فبالإضافة إلى تأليف العديد من الروايات والقصص، أنجز ليم دراسة فلسفية ضخمة ناقش فيها العلاقة بين البشر والآلات، وكمية لا بأس بها من النقد الأدبي اللاذع، ومجموعة من المراجعات لكتب غير موجودة أصلاً، ونظرية حول عشوائية السرد الأدبي، ورواية بوليسية تجريبية، وعدداً من المقالات التأملية حول الذكاء الاصطناعي والسيبرانية وعلم الكون والهندسة الجينية ونظرية اللعب وعلم الاجتماع والتطور والتمثيليات الإذاعية والنصوص المسرحية.

هذا الفضول المذهل في مختلف فروع المعرفة، والتي يناقش كلاً منها بصفاء ذهن وجاذبية آسرة، يمنح كتابات ليم مكاناً فريداً على "مخطط فين" الذي تتمثل فيه العلوم الطبيعية مع الفلسفة والأدب وتتداخل فيما بينها على نحو يثير الدهشة.

 

كما أصبح ليم معروفاً أيضاً بكتابة نوع محدد من قصص الخيال الرومانسي حول التكنولوجيا، والتي جمع بعضها في مجموعة بعنوان "أساطير للروبوتات" ونشرت عام 1964.

تختلف هذه القصص بالكامل عن حكايات الروبوت التي اشتهر بها آيزاك أسيموف وتكاد أن تكون مقلقة بفعل وفرتها الغزيرة:

أميرات متوترات ذوات عقول كريستالية، أجهزة حاسوب بحجم الكواكب تتقاتل مع تنانين من المادة المضادة، قلاع من الطاقة مبنية داخل أقمار زجاجية، جبال تفكر، غيوم منتظمة كالساعة.

وبالرغم من أن القصص تحمل الأبعاد الكلية للأسطورة، فإن أحداثها تتمدد في الغالب إلى نطاقات زمنية كونية ("انتظر التلميذ ألف سنة، ثم ألف سنة أخرى، لكن المهندس لم يرجع")، أو تتشعب على نحو يشبه المنطق المستخدم في آلات روب غولدبيرغ.

أذكر أنني قرأت تلك القصص في نسخة إنجليزية عثرت عليها في مكتبة مدرستي الثانوية وأنني شعرت آنذاك (وسوف أستعير التعبير هنا من إمليي ديكنسون) كما لو أن قمة رأسي قد نزعت من مكانها.

 

ويبدو أن "الأساطير" الأخرى تتحدث بسخرية حذرة عن العفونة التي تتكاثر داخل الأنظمة المستبدة.

تروي قصة "سماعات من اليورانيوم" قصة ملك طماع وشكاك يعيش في قصر من البلاتينوم ويجبر رعاياه على ارتداء سماعات مصنوعة من اليورانيوم الكهرومغناطيسي لمنعهم من إقامة تجمعات.

(عندما تقترب السماعات من بعضها تحدث سلسلة تفاعلات تنتهي بوقوع انفجار).

وفي قصة أخرى بعنوان "آلة ترورل" جهاز حاسوب ضخم بارتفاع بناية من ثمانية طوابق يصرّ على أن ناتج جمع اثنين واثنين هو سبعة.

وعندما يحاول المخترع ترورل تلقيم الحاسوب بالإجابة الصحيحة، ينتفض الجهاز العملاق ويهدده بالأذى الجسدي ويتمسك بإجابته معانداً.

(يصبح ترورل على وشك إعادة النظر في حقائق الرياضيات عندما تنهار الآلة).

وفي إحدى القصص الأخرى حاكم يملك جيشاً سيبرانياً كبيراً لكنه لا يملك أعداء يحاربهم بهذا الجيش، ولذا فإنه يبني جيشاً سيبرانياً مماثلاً لكي يشن الحرب عليه.

(أما رعاياه، الذين نجوا منهم على الأقل، فكانوا يشتكون من أن هذه الحروب الاصطناعية هي بذخ غير مبرر.)

تعد رواية ليم "مذكرات عثر عليها في حوض استحمام" محاكاة هزلية لاذعة للبيروقراطية في أشد أشكالها جنوناً ولاإنسانية، حيث يتجول الراوي صاحب المذكرات بين دائرة التعريف ودائرة التضليل ودائرة التعليمات ودائرة الرموز، ثم يصل إلى دوائر ذات تسميات أكثر رهبة مثل دائرة "".

 

كان عقل ليم الفضولي لأبعد مدى منجذباً بطبيعة الحال إلى الفلسفة، وقد ألف في هذا النطاق عملاً ضخماً في المستقبليات بعنوان "الخلاصة التكنولوجية" في عام 1964.

وعنوان الكتاب يشي بمقدار الطموح فيه.

كان توما الأكويني يسعى في القرن الثالث عشر، من خلال كتابه "الخلاصة اللاهوتية"، إلى وضع منهجية للفكر المسيحي برمته، بينما وضع ليم تأصيلاً علمانياً للعلاقة المتشابكة بين الحضارة الإنسانية والآلات.

ويناقش الكتاب في منتصفه مبحث السيبرانيات (الذي كان جديداً آنذاك).

قدم ليم وصفاً جديداً لأنظمة صرف الطاقة - مثل المحركات البخارية أو البشر أو الأسماك أو حتى المعلومات - فأسماها "جزر القصور الحراري المتناقص".

وفي إطار توضيح مفهومه عن هذه الأنظمة، طرح ليم تصورات عن من أفكار مستقبلية مدهشة كانت تعد في ذلك الوقت ضرباً من الخيال على أقل تقدير.

كان يطلق تسمية "الطيفيات" على ما نسميه الآن "الواقع الافتراضي"، أما "أريادنولوجي" فهي قريبة جداً من محرك البحث جوجل (بناء على قصة أريادني والبحث عن البيانات في متاهات متداخلة من المعلومات).

ويتضمن مقاله المنشور عام 1950 بعنوان "آلات الحساب والذكاء" مناقشة أصيلة وعميقة للعبة المحاكاة لآلان تورينغ، وهو عالم منطق بريطاني توصل بالمصادفة إلى اختراع علم الحاسوب أثناء سعيه لمعالجة مسألة الاكتمال في الرياضيات (وساعد أيضاً في فك رموز شيفرة إنيجما الألمانية، ما أسهم بانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية)، وكان قد تخيل معياراً لتحديد إمكانية وصف حاسوب معين بأنه ذكي.

وإذا ما فشل المستجوب في التفريق بين الإنسان والآلة، فلا بد من اعتبار أن الآلة تفكر (وهذا ما يعرف الآن باختبار تورينغ).

وعند حديثه عن جميع الاحتمالات الممكنة لما يمكن أن تتضمنه أي محادثة أثناء هذا الاختبار، تخيل ليم في "الخلاصة" جهازاً أسماه "الغراموفون الكوني" الذي سوف "يسجل إجابات محددة للأسئلة الممكنة وكذلك جميع تسلسلات المحادثات التي يمكن أن تحدث وهو [بالتالي] بحاجة إلى ذاكرة، . 


كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.