الظهور الوديع لحمامة، يبث لدى الكثيرين إحساسًا بالوداعة والاستكانة، لكن الأمر لم يكن هكذا لدى الرجل الخمسينيّ جوناثان نويل.

رواية الحمامة للكاتب باتريك زوسكيند

الظهور الوديع لحمامة، يبث لدى الكثيرين إحساسًا بالوداعة والاستكانة، لكن الأمر لم يكن هكذا لدى الرجل الخمسينيّ جوناثان نويل. فقد أحدث هذا الظهور المفاجئ وغير

المحسوب لهذا الجسم المستكين، أمام غرفته في النزل، تغييرًا كبيرًا في حياته، فوضى عارمة كانت كفيلة بإجباره على الهروب منها.


في هذه الرواية القصيرة المعنونة بـ “الحمامة“، يظهر الكاتب الألماني، “باتريك زوسكيند”، صاحب رواية “العطر“، براعته في صياغة الاضطرابات النفسيّة والأزمات

الوجوديّة التي عصفت بالسيد نويل، إثر ظهور الحمامة في حيز زمني لا يتجاوز اليوم الواحد. فما هي حكايته مع الحمامة؟


الهروب من جحيم الآخرين

في الفترة من طفولته وحتى صباه، عايش الطفل جوناثان أحداثًا كئيبة، أفقدته توازنه النفسي وقتها -وهو ما يفسر هشاشته النفسيّة التي بقيت معه- بدءًا من فقدانه

لوالدته في حادث غير مفهوم، ثم اختفاء والده عقب هذا، وهو ما أدى إلى أن يُربى مع أخته في كنف عمٍ لهما لم يسبق أن رآه، وحينما عاد من الخدمة في الجيش، بعد

فترة قاسية قضاها في الثكنات العسكرية، اكتشف أن أخته اختفت أيضًا. وعندما لبى الشاب اليافع وقتها طلب عمه في الزواج، وقع حظه مع فتاة خانته وهربت مع رجل

آخر، وهو ما جعله مثارًا للسخرية بين الناس.

تيقن بعد هذا أنه لا يمكن له أن يثق في الناس مهما حدث، وأن الخير دائمًا في الابتعاد عنهم، لهذا حزم أغراضه وسافر إلى باريس، هناك حيث سيبدأ حياة جديدة،

يشيد فيها عالمه المنزوي على نفسه، القائم على فلسفه الاختباء عن أعين الآخرين.

كان رحيل جوناثان نحو باريس، بعد أن سئم سخرية الناس منه، هروبًا من الأعين المتلصصة الباحثة عن شيء يثير فضولها. لقد أراد التملص من الانتهاك الذي وقع تحت

وطأته، ولم يستطع تحمل البقاء رهن وضع يظل فيه مكشوفًا للجميع، معروفًا بخيباته وماضيه الأليم. كان عاريًا تمامًا أمام الناس، وبرحيله أراد أن يكتسي برداء

الخصوصية

يقول الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر: “الجحيم هو الآخرون”.

رؤية جوناثان نويل لأعين الآخرين، ورغبته الملحة في الانعزال، لا تختلف كثيرًا عن رؤية المؤلف “باتريك زوسكيند”، بل ربما تكون مطابقة لها، فالمؤلف ذائع الصيت،

يحيط نفسه بهالة كبيرة من الغموض، فمن المعروف أنه يكاد لا يظهر ولا يُعرف عنه الكثير، إلى درجة أنه لم يحضر الافتتاح الرسمي لفيلم “العطر”، ولا يجري الأحاديث

الصحفية، رغم أنه ابن لأسرة تعمل في الصحافة.


رجل الغرفة المنعزلة

عمّا كان يبحث جوناثان نويل في باريس هربًا مما تركه خلفه؟ هل كان يأمل أن تكون حياته الجديدة مليئة بالأصدقاء والمجد المهنيّ والمعارف والثروة؟ على العكس تمامًا،

كان يريد حياة هادئة يكون فيها غير مرئي قدر الإمكان، ولهذا السبب ذاته اختار باريس، للاختباء في زحامها.


لدى وصوله إلى باريس، حالفه الحظ في أمرين، الأول عندما وجد وظيفة حارس أمن في أحد البنوك، وهي وظيفة لا تتطلب قدرًا كبيرًا من الاختلاط بالناس، الثاني عندما

وجد الغرفة رقم 24، التي كانت مناسبة تمامًا لما كان يريده.

  “الزبائن ينظرون إليه في البنك كشيء متمم لشكل البنك، وليس كإنسان”.

شكّلت الغرفة رقم 24 واحته المنعزلة، التي يضع نفسها فيها بعد عودته من العمل، فمن جانب لا تعطي مجالًا في الأساس لاستقبال ضيوف بسبب مساحتها الضيقة، وكأنها

تقفل بابها في وجوههم تلقائيًا، ومن جانب آخر، فإن هذه المساحة الضيقة تعزز ارتباطها به أكثر، ليشكل فيها هويته، التي يعجز حتى عن إبرازها في الخارج.


تعامل جوناثان مع غرفته المنعزلة، على أنها جزء منه، ووقع في حبها من اللحظة الأولى، كما لو أنها امرأة يعوّض لديها خيباته التي لاقاها في العالم الخارجي. إنه لم

يكن يحتاج إلى شقة تأويه، لكنه كان في أمسِّ الحاجة إلى قوقعة تحتضنه.

“احتفظت غرفة جوناثان حتى بعد مضي ثلاثين عامًا على إقامته فيها بخصائصها ومميزاتها في نفسه، كونها في الماضي، وبقاؤها في المستقبل، جزيرته الآمنة، في هذا العالم

المضطرب، حصنه المنيع، وملجأه وعشيقته، نعم عشيقته! فقد كانت تعانقه دائمًا بحنان في كل مرة يعود إليها ليلًا، تدفئه وتحميه وتغذي روحه وجسده، كانت دائمًا هنا حين

يحتاجها، ولم تهجره أبدًا، لقد كانت الشيء الوحيد في حياته، الذي أثبت أنه يمكن الوثوق به، لذا فإن جوناثان لم يفكر مطلقًا بهجرها أو الانفصال عنها”.


عندما يفزع المرء من حمامة وديعة

تعلمنا حكاية جوناثان أنه لا وجود للحياة الهادئة البعيدة عن الاضطرابات مهما حاول الإنسان، فشيء تافه وجميل، بالنسبة للجميع، يمكنه أن يشكّل مع ماضٍ من

الاضطرابات النفسيّة، كابوسًا حقيقًا تتمنى لو أن تستيقظ منه.

ظهور الحمامة المفاجئ وغير المدبّر أمام باب غرفته، كان إخلالًا بالنمط الدقيق الذي دأب عليه منذ أن حط بقدميه في باريس: أنا وغرفتي، ولا شيء ثالثنا.

ظهور هذا الكائن، لا يعني بالنسبة له أي معنى للوداعة، بل كان مثيرًا للرعب في نفسه، لأنها شيء دخيل ولا يجب أن تكون هناك بأي حال من الأحوال، فوجودها يذكره

بأن حياته المحصّنة معرّضة للاستباحة في أي ظرف، وحتى على يد هذه الحمامة المستكينة.

هرب جوناثان إلى باريس، لأن لديه مشكلة حقيقيّة تكمن في عدم احتماله لكونه مرئيًا، يشعره هذا بالانتهاك، بأنه عارٍ تمامًا، وخاضع لأحكام الناس عليه وسخريتهم منه.

لهذا فمن المستحيل أن يتقبل وجود هذه الحمامة أمام عتبة غرفته، وهي تحدق به عبر عينها الشبيهة بعدسة التصوير التي تراقب وتسجل كل ما يقوم به الباريسيّ

المنعزل، إنها تقف هناك وتبتلع تفاصيل حياته، تعريه من خصوصيته التي حصّن حياتها بها.

إنه تدخّل سافر في شؤون حياته، من شأنه أن يسبب فوضى لا يعرف حتى كيف سيعالجها، لأنه كان قد وطّن نفسه منذ زمن بعيد على تجنب مثل هذه التدخلات، أن يمنعها

قبل أن تحدث، أن يهرب منها، لا أن يواجهها أو يقاومها.

“لقد انتهى أمرك.. ما أنت إلا كهل ميؤوس منه، إنك تسمح لحمامة أن ترعبك حتى الموت! حمامة تقذف بك إلى غرفتك، تطرحك أرضًا وتجعل منك سجينًا! سوف تموت يا جوناثان، سوف تموت! إن لم يكن الآن فقريبًا. كانت حياتك كلها خطأ، لقد أفسدت حياتك كلها، حياتك هذه التي تزلزلها حمامة”.

ما يفعله الذعر بالإنسان

لم يجد جوناثان نويل بدًا من الهروب، إنه لا يقدر على مواجهة الحمامة، فغادر الغرفة محملًا بفوضى انسحبت على رؤيته للأشياء، وعلى وعيه ووصلًا إلى حركته، حتى

عمّ الاضطراب كل حياته.

لملم أغراضه في الحقيبة ذاتها التي جاء بها إلى باريس، عازمًا على الهروب مرة أخرى، لأنه لم يتعلم فنون المواجهة، ترك نفسه للرعب يسري في أوصاله، حتى تمكن

منه، وصار يتحكم فيه أكثر من أي شيء آخر.

في العمل، أدرك جوناثان الأمر على نحو أوضح، أن الاضطراب هذه المرة ربما قد يقضي عليه، بعد أن فقد تركيزه تمامًا، ولم تعد له السيطرة على جسده، الذي بات يتحرك

كما تتحرك دمية مسرح العرائس.

صحيح أنه استأجر غرفة أخرى، وقضى فيها ليلة واحدة، ثم عاد إلى غرفته فجرًا، لكنه لم يعد كما كان، عاد جوناثان مختلفًا هذه المرة، دون خوف من الحمامة، ربما

يكون لأنه انسلخ عن نفسه، وصار شيئًا آخر، وربما يكون قد مات، لأن المرء لا يتخلص من خوفه إلا حينما يموت.


“نعم، أصبح يشعر كأن هذا الجسد كله الذي يحيط به لم يعد جسده، بل كأنه هو، جوناثان -أو هذا الذي بقي منه- ليس أكثر من جني صغير منكمش في قفص ضخم لجسد غريب، قزم عاجز مسجون في آلة آدمية شديدة الضخامة والتعقيد، وليس بإمكانه السيطرة عليها أو التحكم فيها، لم يعد يقودها ويوجهها كما يريد ويشتهي، بل راحت تسيّر نفسها بنفسها، أو أن قوى خارجية ما باتت تتحكم بها”.