مع نهاية كل عام وبداية آخر جديد، اعتدنا على عمل حسابات نكتب فيها ما قمنا بإنجازه خلال السنة الفائتة، وما نريد القيام به في العام المقبل، عن الكتب التي قرأناها والتغييرات التي طرأت على حياتنا، ماحققناه مما كنا نحلم به في بداية العام وما سننقله إلى العام المقبل ويبقى معنا رغبةً منا بعمله، ونحن مدركون لأهميته وبعض الكسل والانشغالات والأعمال الصغيرة التي نقضي بها أيامنا … وتمتلِئ المواقع والصفحات في فيسبوك، وفقرات البرامج الصباحية والمسائية في التلفاز بالأفكار التي تساعدك كي تخطط جيدًا للعام القادم، وتنفذ ما تحلم به.
لكن هذه المرة لن نتحدث عن الخطط المستقبلية والأحلام العملية والجوانب الحياتية التي نتناولها عادةً … هذه المرة سنتحدث عن الحياة نفسها، وكيف نعيشها … عن الحب … عن الرحمة والتعاطف … عن مشاعرنا وضعفنا … هفواتنا ونجاحاتنا … في النهاية ما هي الحياة إذا لم تكن هذه الأشياء؟
دانييل جوتليب جد يحمل كل صفات الجد التي نعرفها … الحكمة والحنان والرحمة التي يتعامل بها مع أحفاده، وشاء الله أن يصاب بشلل رباعي في بداية الثلاثينات من عمره ويمضي عمره مع هذا العجز، ثم يولد حفيده مصابًا بالتوحد أو الاضطراب الحاد بالوظائف الأساسية، وهذا جعله أقرب له وأكثر فهمًا لمشاعر حفيده، ولما يمكن أن يصاب به في المستقبل …
فقام الجد بكتابة مجموعة رسائل وجهها إلى حفيده كي يقرأها عندما يكبر خوفًا من أن توافيه المنية، فلا يفيده بخلاصة حكمته وتجربته في الحياة، لكن في الحقيقة هذه الرسائل تحمل مجموعةً من الحكم التي يمكن أن يستفيد منها أي شخص يقرأها مهما كانت ثقافته أو البقعة التي يعيش بها أو عمره … إنّها حكم تصلح لكل واحد منا، ومن الرائع أن نتعلمها مع بداية العام الجديد.
لا أحد كامل
“كلنا نعاني بعض النقائص التي تجعلنا مختلفين، الشعور بأنّك مختلف هو ما يغير نظرتك للعالم، أن تكون مختلفًا ليس بمشكلة، المشكلة هي الشعور بأنًك مختلف … اختلافنا مجرد حقائق؛ لأنّه يحوّل إدراك عقولنا هذه الحقائق إلى آلام، وقد نتعامل معها أنّها حقائق نعترف بها لكن لا نحسها”
حتى لو لم تكن مصابًا بحالة صحية خاصة تجعل اختلافك واضحًا أمام الآخرين، فكلنا بشكل أو بآخر نحمل اختلافًا وهذا ما يميز أي شخص، وإلّا ما فائدة أن يكون الجميع نسخًا متشابهةً من بعضهم! … إذًا ليست المشكلة في الاختلاف بل كيف ننظر إلى هذا الاختلاف وكيف نشعر حياله، في النهاية بعض الاختلافات حقيقة واقعة لا يمكن التخلص منها، فمشاعرك تجاه هذه الحقائق هي التي تحدد هل ستبدو مميزًا أم مجرد شخص مختلف آخر.
عن الحب الإيثاري
“العطاء الأسمى هو أن تعطي دون غرض في نفسك ودون استعراض”
ليست المتعة دائمًا في الأخذ، بل هي تكمن في العطاء … العطاء دون سبب ودون استعراض أمام الآخرين، في منح ما أنت بحاجة له لمن يحتاجه أكثر منك … أن تعطي الحب وأنت لا تفعل هذا لأنّه واجبك، ليس لأنّهم أولادك أو إخوتك أو والداك.
توقف عن استعراض مشاعرك تجاه الآخرين على مواقع التواصل الاجتماعي، لا تضع صور الهدايا التي تحضرها للآخرين ولا تلك التي يحضرونها لك … المشاعر تكون أجمل حين نحتفظ بها بيننا وبين الآخرين، يجعلها تحافظ على بريقها وجمالها وقوتها.
الرحمة والتعاطف
“يفتح لك الضعف باب الرحمة من الآخرين، تدفعنا المواقف إلى أن نتصرف بشجاعة وقوة حتى عندما لا نكون نشعر بأي من ذلك حقيقةً… لكن هذه المواقف قليلًا ما تحدث وكثيرًا ما يكون العائد أفضل إذا لم نتظاهر بالقوة عندما نشعر بالضعف، أو نتظاهر بالشجاعة عندما نكون خائفين…”
الحياة قاسية وليست سهلةً، وهي حقيقة علينا التعامل معها وحتى تقدر على مواجهتها يجب أن تتمتع بالشجاعة والقوة أمام الآخرين، لكن لا بأس ببعض الوقت الذي ترفع فيه راية الاستسلام، وتعلن فيه عجزك وضعفك وحاجتك للمساعدة من الآخرين.
“الضعف يفتح القلوب بشكل أقوى من ذلك بكثير، كما للتبادل المبني على اهتمام حقيقي يمكن أن يؤثر في الناس بشكل عميق للغاية”
إعلان ضعفك ومساعدة الآخرين لك تفيد الطرف الآخر كما تفيدك، فمساعدة الآخرين تفرز هرمون الأندروفين المضاد للاكتئاب … فليس من السوء دائمًا أن نطلق أنوار التحذير ونخبر الآخرين أنّنا في هذه اللحظة نحتاج إليهم … وستفاجِئك المساعدة والتعاطف الذي سيُقدم لك ربما من أشخاص لا تعرفهم.
ليكن غضبك مفيدًا
“لماذا نشعر بالغضب؟ … كيف ندير الرغبة؟ … وكيف نتصرف بشأن حاجاتنا؟ … كيف نتعامل مع الغضب عندما لا يتم إشباع حاجاتنا؟ …”
نشعر بالغضب عادةً لأنّنا لا نقدر على تحقيق رغباتنا، ولأنّنا نجد أنّ ما نريده أو نحلم به غير قابل للتحقيق …
عندما لا نعرف ما يغضبنا يتحول إلى ثورة وتطلق الثورة في أنفسنا فعلًا … وتشتعل الحروب لأنّ الغضب خرج عن السيطرة … لكن هذا الغضب يمكن أن يتحول إلى صورة منتجة! …
هذا ليس كلامًا غير منطقي، لكن إذا تمت إدارة الغضب بشكل مناسب فإنّ الأمور ستسير على نحو أفضل بكثير، غضبك بشأن رسوبك في الامتحان قد يجعلك تتهجم على أستاذك وتتهمه بالظلم، أو يجعلك تعيد النظر في أسلوبك الدراسي وتفكر جيدًا بطريقة جديدة تذاكر بها كي تنجح …
ومشكلة أي شخصين غاضبين من بعضهما شعورهما بعدم العدالة على المستوى الشخصي … فأنت تشعر بالظلم بسبب رسوبك في الامتحان، والأستاذ يرى أنّه ليس من العدل أن يبذل جهده في الإعطاء والدروس ولا يجد نتيجةً من الطلاب … ولكن الصراع من أجل العدالة الشخصية يؤدي إلى الكثير من التعاسة، أمّا الصراع في سبيل العدالة الاجتماعية فهو أمر مختلف … أن تدخل صراعًا مع أستاذك؛ لأنّه يضع علامات متدنية للطلاب بشكل عشوائي أمر يختلف كليًا عن دخولك في صراع معه؛ لأنّك رسبت أنت بينما لو نجحت لما فكرت في التقدم بأي خطوة تجاه الأمر …
كل الجراح تلتئم
كثيرًا ما نسخر من عبارة: (الزمن يصلح كل شيء) لكن الزمن ليس هو من يصلح الأمور، بل نحن من نفعل هذا عندما نترك الأمور تسير وفق مسارها الطبيعي الذي خلقت به … فكل شيء يولد ويموت ولا شيء يستمر.
“عندما لا يزول الألم بالسرعة المناسبة، يجب أن ننتقد أنفسنا لعدم التغلب عليه، أو لعدم امتلاك القوة الكافية، أو لكوننا ضعفاء في المقام الأول … سام … ليس هكذا تلتئم الجراح، إنّها لا تطيع رغباتك ولكن الشفاء يحدث في وقته”
إنّ التئام الجروح معجزة في حد ذاتها ففي النهاية تلتئم الجروح بنفسها، فبعد كل شيء الألم هو مشاعر ولا مشاعر تبقى إلى الأبد … وعندما نشعر بألم عميق فإنّ لدينا كل ما نحتاج إليه في داخلنا لإصلاح الضرر … تساعدنا الشفقة والتفاهم والرعاية … الرعاية من الناس الذين يحبوننا ويمكنهم تحمل آلامنا دون أن يلقوا على مسامعنا بالنصائح والآراء … ومع مرور الوقت يقل الحنين لما كنا نمتلكه بالأمس ونعتاد ما نمتلكه اليوم.
من الطبيعي أنّك لا تعرف
“الاعتراف مثل المخصبات الزراعية، يجعلك تشعر بالضيق عندما يحدث، لكن لا شيء ينمو بدونه”
نقع في الكثير من المشكلات بسبب تظاهرنا بالمعرفة المطلقة، وأنّنا نملك الخبرة في كل شيء ونجيد عمل كل شيء، ولا أعرف أحدًا يبرع في هذا كما نفعل نحن العرب، فكل شخص عربي هو شيخ ومحلل سياسي وخبير اقتصادي وناقد فني وشيف محترف.
الاعتناء بالجزء الذي تملكه
“إنّ من أسباب السلام الذي أعيشه في حياتي أني أعتني بالجزء الذي أتحمل مسؤوليته من الكون …”
كل منا موجود في مكان معين في هذا الكون، ويؤدي مهمة ما … سواءٌ كنت طالبًا أو موظفًا … أمًا أو أختًا أو فردًا من عائلة ما … ربما اخترت بعض هذه المهام وربما لم تفعل ولا مفر منها … ليس عليك أن تقوم بمعجزة فيه، يكفي أن تؤدي ماعليك بأمانة وإخلاص وتعتني به بالشكل الأمثل، وبذلك تكون قد حققت رسالتك وأثبت أهمية وجودك.
تعلم كيف تتخلى عن الأشياء التي انتهى وقتها
“نحن نفقد في النهاية كل شيء نتعلق به، نفقد ممتلكاتنا وأحباءنا وحتى شبابنا وصحتنا … كل خسارة هي بلوى … لكنها أيضًا فرصة”
خسارتك لعملك فرصة للحصول على عمل أفضل أو إنشاء عمل خاص بك، خسارتك لحبيبك فرصة كي تطور نفسك وترتقي في عملك تتعلم كيف تتوازن … عندما تشعر بألم الخسارة تذكر أنّه مكسب بطريقة أو بأخرى … ويكفي أن تؤمن بأنّ هذا الألم انتقالي وستتعرف على قدرتك على التعامل مع الأوقات العصيبة والضغوط، وتشعر بالفخر كيف خرجت منها تعرف نفسك أكثر.
ما تحتاج إليه هو السعادة
ولكن ما معنى أن تكون سعيدًا؟ … حساب بنكي؟ … زوجة جميلة؟ … عمل مستقر ويدر عليك الكثير من المال … نجاح في العمل … إنجازات كثيرة؟ … من أين تأتي السعادة؟ … كيف نحصل على الأمن الحقيقي وليس الأمن المزيف الذي يأتي من الطعام والمال والجنس …
بصرف النظر عما تقدمه سيرتك الذاتية … تذكر ما تحتاج إليه روحك للسعادة … ليس المظهر الاجتماعي والأملاك … وإنما هو الحب الذي يرتقي ويتزايد يومًا عن يوم.
ارسم خارطة طريقك الخاص
خارطة الطريق الشخصية هي فلسفتك في الحياة … عن الناس … تتوارثها من العائلة والمجتمع وتضع عليها بصمتك الخاصة … وترشدك إلى طرق مختلفة في الحياة … قد تكون الخارطة تتضمن: “أنّ الحياة سلسلة صعبة من المشاكل التي تحتاج إلى الحل بقليل من المتعة” وقد تتضمن الخارطة: “الحياة كنز يستحق الشكر” أنت النمط الذي تريد أن تكون عليه حياتك …
وأيضًا ترسم فيها فلسفتك عن نفسك: هل أنا شخص جيد؟ … أم أنّي لست جيدًا بما يكفي؟ … هل أنا محبوب؟ … هل أستطيع أن أفعل ما أريد؟ … ما مدى ثقتي بنفسي وبمن حولي … إجابات هذه الأسئلة تشكل دليلنا لفهم أنفسنا، وفهم من حولنا والكيفية التي تسير عليها حياتنا.