قصة مدينتين لتشارلز ديكنز

ملامح فرنسا قُبَيل الثورة الفرنسيةالنظام القديم

كان المجتمع الفرنسي في النظام القديم -أي قبل الثورة- مقسمًا إلى ثلاث طبقات، لكل منها مهام خاصة:

  • رجال الدين: يشكّلون الطبقة الأولى التي تتكفّل بمؤسسات العبادة، بمهام التعليم العمومي، المساعدات الاجتماعية والطبية، وبتوثيق عقود الزواج والسجلاّت المتعلّقة بالحالة المدنية.
  • النبلاء: مهمّتهم الرئيسية الدفاع عن المملكة والقانون عن طريق الخدمة في الجيش.
  • الطبقة المتوسطة والدّنيا: هي التي تمارس النشاطات الاقتصادية الربحية، تضم التجار والحرفيّين والفلاّحين.

الطبقة الأخيرة كانت الأكثر خضوعًا للضرائب بصفتها المصدر الوحيد للربح، وكانت الضرائب أكثر قسوة على الفلاّحين بالخصوص فقد كانوا يقدّمون ضرائب كثيرة للملك، لرجال الدين وللنبلاء مقابل استغلال الأراضي والمطاحن وغير ذلك.

الحالة الاقتصادية للبلاد

عرفت فرنسا تدهورًا اقتصاديًا رهيبًا في أواخر القرن الثامن عشر لسببين رئيسيين: الأول يتعلّق برداءة المنتوج الزراعي طوال سنوات متعاقبة، الأمر الذي أدى إلى زيادة في الأسعار وانخفاض في القدرة الشرائية وانتشار الجوع والفقر بين أبناء الطبقة الثالثة.

السبب الثاني مرتبط بخسارةِ فرنسا لحرب السنوات السبع (حرب عالمية بين القوى الأوروبية مِن 1756 إلى 1763) ودعمِها للثورة الأمريكية في مسعاها نحو الاستقلال، وهكذا أمضت فرنسا سنوات طويلة في حروب مستمرة على أراضي مترامية الأطراف.. مصاريف الحرب أنهكت خزائن المال وفرضت ضرائب أكثر على الشعب، فزادت الأوضاع سوءًا.

أفكار عصر التنوير

هناك إجماع بين المؤرّخين على أنّ الثّورة الفرنسيّة كانت نتيجة مباشرة لحركات التنوير الأوروبية، فرغم وجود استعداد شعبي رهيب لإسقاط الحكم المستبدّ وكسر يده، إلاّ أنّ الروح الناقمة وحدها لا تكفي لتسيير منظومة ثورية وفق خُطى عقلانية نحو بديل متكامل واضح وبعيد عن العبثية والشعبوية.

إذ أنّ المحرّك الأهم لعجلة التقدم هو الفِكر أوّلًا وأخيرًا، والثورة الفرنسية تغذّت بشراهة على أفكار عصر التنوير وأخذت من فلاسفة ومؤلّفين وحقوقيّين كُثر أعمدةَ الدولة الجديدة وأسُسها التي تتمثل في: العقل كمصدر وحيد للسلطة والشرعية، الحكم الدستوري، فصل الدين عن الدولة، الحرية الفردية وحرية التعبير، التسامح الديني، المساواة، وغيرها من الأسس التي ما زالت اليوم تشكّل قاعدة أنظمة حُكم كثيرة.

إذا كانت الثورة الفرنسية توصف بـأنها “مفترق الطرق في العالم الحديث حيث بدأ كل شيء بالتغيّر”، فهذا لأنها كانت ثورة كاملة، ثورة غضب وأفكار ووعي، لم تكن سُخطًا شعبيًا فقط، كانت ثورة العقل على الظلمات قبل كل شيء.

مآلات الثورة الفرنسية

استمرّت الثورة عقدًا كاملًا وعرفت تتابع الكثير من الأحداث السياسية والدموية، عاشت فرنسا خلال هذه الفترة حالة من الذعر والاهتزاز وتمخّضًا مستمرًا للقرارات والقيادات.

سقط الملك وقطعوا رأسه سنة 1793، لكن حياة الجمهورية الأولى لم تكن طويلة كما لم تكن هانئة، وانتهت سنة 1804 عندما أعلن “نابوليون بونابرت Napoléon Bonaparte” نفسه إمبراطورًا (سقط الملك، لكن يحيا الإمبراطور – يا للسخرية!).

الشاهد هو أنّ روح الثورة وأفكارها لم تمت بانتهاء الجمهورية الأولى واختفاء رجالها، لأنّها بُنيت على مقوّمات فكرية لا تتعلّق بفترة معيّنة أو مكان محدّد، ولهذا امتدّت عبر العقود المتوالية لتتجلّى في بناء جمهورية فرنسية ثالثة سنة 1870 لم يأتِ بعدها ملك أو إمبراطور.

الثورة الفرنسية في الأدب: قصة مدينتين

كُتبت الكثير من الروايات عن الثورة الفرنسية، لكن أشهرها هي رواية “قصة مدينتين A tale of two cities” للروائي الإنجليزي “تشارلز ديكنز Charles Dickens”، وهي رواية تاريخية تدور أحداثها بين فرنسا وإنجلترا بين سنتي 1775 و1792.

الرواية ليست كتاب تاريخ يُستند عليه لأخذ معلومات تاريخية، لكنها مدخل رائع لذلك العالم المهتزّ بين كفّتي النور والظلام، نور المبادئ النبيلة والأهداف السامية للثورة، وظلام الأخطاء البشرية وشراهة الانتقام الأعمى.

شخصيًا، شاهدتُ منذ سنوات وثائقيات عن الثورة الفرنسية التي ظلت منذ ذلك الحين ترافقني كواحدة من أهم الوقائع التي عرفها التاريخ. لكن رغم كثافة المعلومات التي تُعرض في الوثائقيات أو المقالات التي تتحدّث عن هذا الموضوع، إلاّ أنّها تظلّ قاصرة في إقحام المهتمّ في جوّ ذلك الزمان، لكن الرواية بشخصياتها وأحداثها المتداخلة، والمشاعر الحية المرتبطة بها، تفعل ذلك بسلاسة وتنجح بسهولة في ترسيخ مُجريات الأحداث في الذهن.

الخطوط العريضة للقصة

تبدأ الرواية بوصف الأوضاع السائدة في لندن وباريس سنة 1775، وتنطلق الأحداث بخروج “الطبيب مانيت Doctor Manette” من سِجن الباستيل الفرنسي حيث مكث طوال 18 سنة.

يلتحق الطبيب بابنته في إنجلترا، ويعيشان في لندن حياةً تتسلّل إليها شخصيات أخرى وأحداث متشابكة تبلغ ذروتها سنة 1792 حين تتداخل أقدار الفرنسي “تشارلز دارني Charles Darnay” والإنجليزي “سِدني كارتون Sydney Carton” في الطريق نحو المقصلة.

كانت الرواية عظيمة في تقريبها لمعنى الثورة إلى الأذهان، وحجم القرابين التي يجب أن تُقدّم إليها في سبيل إسقاط النظام السائد وتغييره، وهو الأمر الذي يتوافق مع مقولة “دانتون Danton” أحد أبرز قادة الثورة الفرنسية:

الثورة، يا رفاق، لا تُسقى بماء الورد.

كما أبدعت الرواية في تجسيد بطش النبلاء وطغيانهم وآلام الرعية وقهرهم، وكيف قلبت الثورة الموازين ليسقط الظالم ضحية في يد المظلوم، وكيف أنّ الظلم لا يتلاشى بزوال طبقة ما أو فئة ما لكنه يستمر بأشكال أخرى لارتباطه بالطبيعة البشرية القاصرة، وكيف انتقلت الثورة من طريقة لإسقاط المملكة إلى “مرحلة حكم الإرهاب Reign of Terror” أريقت خلالها أنهار من الدماء.

في النهاية، يجب الإشادة بلغة ديكنز السردية السلسة، وحبكته المثيرة، وبراعته في إمتاعنا بأسلوبه الساخر ودعابته اللاذعة عبر أكثر من 300 صفحة.

يقول ديكنز في روايته – بتصرّف:

كان الهواء ثقيلًا وداكنًا، كان الناس مَحمومين بالانتقام، وكان يُحكم بالموت على الأبرياء باستمرار نتيجة شكّ ضبابي أو مكر أسود.

في شوارع باريس، تمرّ عربات الموت، صامتة وقاسية. سِت عربات يحملن نبيذ اليوم للمقصلة. كل الوحوش الشّرِهة التي تخيّلها الإنسان منذ بداية الخيال، انصهرت في إنجاز واحد هو المقصلة*.

تمر ست عربات عبر الشوارع. غَيِّرْ هذا الوضع إلى ما كان عليه، أيها الوقت القويّ الساحر، وسيُرى في هذه العربات ملوك ذوو حكم مطلق، ومعدّات نبلاء إقطاعيين، وكنائس ليست ببيوت للإله لكن أوكار للصوص، وأكواخ لملايين المزارعين الجوعى!