لماذا تأخر العرب بينما تقدم الآخرون؟ سؤال يتكرر كثيرًا في الأدبيات العربية التي تبحث عن إجابة لسؤال النهضة والإصلاح السياسي والاجتماعي في العالم العربي، وهو السؤال الذي يحاول المفكر المغربي علي أومليل في كتابه «الإصلاحية العربية والدولة الوطنية» أن يقدم إطارًا فكريًا تاريخيًا يسجل محاولات العرب في الإجابة عليه.
يطرح كتاب أومليل سؤالين رئيسيين، ألا وهما:
كيف تصور مفكرو العرب المحدثين الأسباب الأساسية للتقهقر العربي التاريخي؟ وكيف تصوروا الطريق لإصلاح ما آلت إليه أحوالهم؟ في هذا السياق، يتوقف أومليل عند تصور مشترك لدى الإسلاميين والعلمانيين العرب على حد سواء، يفسر من خلاله الفريقان أسباب التأخر والانحطاط ويربطه ربطًا مباشرًا بالمؤسسة السياسية والمسألة الدستورية، فكان الاستبداد عند هؤلاء وهؤلاء هو السبب الأول للتأخر، وكانت بداية الحل هي قضية الإصلاح السياسي والدستوري على اختلاف تصوراتهم لطبيعة هذا الإصلاح.
ما هو الإصلاح بمفهوم إسلامي؟
قد يتحفظ البعض على دلالية السؤال أعلاه، متسائلين لماذا نظل حبيسي هذه المعيارية الدينية في تصورنا للإصلاح؟ لا سيما وأن الفكر العربي الحديث عرف بالفعل محاولات «مدنية» أو «علمانية» للإصلاح، وهو ما لا يعترض عليه أومليل، ولكنه يقول إن محاولات الإصلاح المدني تلك قد أخفقت بالمعنى الشامل، بغض النظر عن نجاحات جزئية هنا أو هناك.
افتقدت هنا تلك المحاولات الإصلاحية إلى شرط تاريخي من شروط تحققها، ألا وهو التعرف بوضوح على الموروث الفكري الذي عليها أن تعمل داخله وفي مواجهته بعد أن يفند أومليل بشكل مسبق هذا التحفظ المتوقع من قبل البعض، يبدأ مباشرة في الإجابة على سؤال: ما هو الإصلاح بمفهم إسلامي؟
الإجابة هي وضع الإسلام الاجتماعي في مستوى الإسلام معياري، أو بلغة أخرى موائمة الواقع الديني والاجتماعي مع المرجعية المعيارية الإسلامية. وتلك دعوى لم تنقطع طوال التاريخ الإسلامي كما يقول، ما دام الواقع الاجتماعي والإسلام المعياري لم يتطابقا على نحو مثالي في أي وقت من الأوقات، باستثناء فترة الصدر الأول، وهو الفارق الذي قد يتفاقم اليوم ليصل في وعي بعض المعاصرين إلى ما يشبه القطيعة بينهما، على نحو يجسد مفهوم «غربة الإسلام» في المدونة التراثية الإسلامية.
الفطرة الإسلامية والحالة الطبيعية الليبرالية
بحسب أومليل قد تكون الإنسانية أفقًا ضروريًا يكسر حدود التصور الضيق لثقافة ظلت منعزلة عن عالم قد تغير، فتصبح حينئذ وسيلة لإدخال التنوع والنسبية، ولكنها في حالة علاقة غير متكافئة بين ثقافتين مختلفتين تتحول بالنسبة إلى الثقافة الواقعة تحت الضغط إلى مجرد شعار أجوف، وهنا لا تكون المقارنة سوى عملية تبرير سطحية لصالح الثقافة المهيمنة، ما دامت تلك الأخيرة تُتخذ كمصدر أول للمعنى والقيمة.
يؤكد أومليل هذه الفكرة كمقدمة لعقده مقارنة بين مفهوم الفطرة في التراث الإسلامي والحالة الطبيعية في الفكر الليبرالي الكلاسيكي، مؤكدًا وجود نتائج مختلفة عند الإحالة إلى كل من المفهومين.
يرى أومليل أنه باستثناء المتكلمين المسلمين المتأثرين بالفلسفة اليونانية، يرادف علماء الإسلام مفهوم الفطرة بالإسلام ذاته باعتباره الدين الحنيف والدين الحق، هنا الإسلام هو رجوع للأصل الإبراهيمي وكل الأديان ما عداه هي انشقاق وتحريف وميل عن الأصل الأول، الإسلام هنا هو المسيحية الأصلية واليهودية الأصلية على حد سواء، هذا هو الإسلام المساوي للفطرة.
ولكن يتوقف أومليل عند مفهوم الفطرة لدى ابن خلدون، مشيرًا إلى أن حديث الأخير عن مفهوم الفطرة يختلف تمامًا عن حديث الفقهاء والمتكلمين الآخرين، حيث يربط ابن خلدون بين الفطرة والمجتمع الوحشي الذي تكون فيه الجماعة الإنسانية ألصق بالطبيعة، وأكثر خضوعًا لضروراتها، وهو ما يتمثل في مجتمع بدو القفار، الذي يعبر عن مجتمع الندرة و المعاش الضروري والطبيعي، وهنا ابن خلدون لا يساوي مجتمع الفطرة بهذا المجتمع، ولكنه يذهب إلى أنه أقرب مجتمع لإدراكه. وكأن الفطرة لديه هي أفق معياري نموذجي أقرب منه إلى حالة معيشية محددة. هنا مجتمع ابن خلدون الطبيعي لا يتحول إلى مجتمع سياسي إلا عن طريق الدين.
يعطف أومليل بعد ذلك على تناول مفهوم الفطرة أو الحالة الطبيعية في الفكر الغربي، كمنطلق أساسي في نقض نظرية السلطان المطلق للملوك، وتأسيس نظرية المجتمع المدني، ويتحدث عن اختلاف الفلاسفة الغربيين في فهم تلك الحالة، بين من يرى بأن أصل الاجتماع الإنساني هو الحالة الوحشية التي يسود فيها الصراع بين الجميع، وبين من يرى غير ذلك. ويتوقف عند مسألة اكتشاف الأمريكيتين وسكانها الأصليين كحافز للتساؤل لدى الغربيين عن مفهوم الحالة الطبيعية.
الاستعمار والدولة الوطنية
لم يتعرف المفكرون العرب والمسلمون على الدولة الوطنية الحديثة كنظرية كما تعرف أسلافهم على نصائح أرسطو السياسية، ولكنها تجسدت أمامهم بحسب أومليل من خلال قوى ضاغطة على مجتمعاتهم ومستعمرة لبلدانهم، ولذلك فإن بحث مواقف المفكرين المسلمين منذ أواخر القرن الثامن عشر في هذا الإطار، ينبغي أن يقرأ في سياق وجود قوى أجنبية ضاغطة لفرض تلك الدولة وتنظيماتها على أرض الواقع.
يسجل أومليل ملاحظة أخرى في هذا السياق، ألا وهي أنه نظرًا للضغط ولتدخل الاستعماريين، فإن المفكرين المسلمين لم يتعرفوا في بادئ الأمر على الدولة الحديثة كجهاز متكامل، بل كعناصر مبتورة، من خلال عملية إدخال التنظيمات المتعلقة بالجيش والقضاء والتعليم على فترات متباعدة، وكان لهذا البتر نتائجه التي انعكست لاحقًا.
يقارن أومليل في هذا الإطار نشأة الدولة الوطنية في البلدان الأوروبية والبلدان الإسلامية، ويقول إن البلدان الإسلامية تطلعت إلى إقام هذه الدولة كرد فعل ضد التدخل الأجنبي، على خلفية من تطلع محوره سؤال أساسي: ما مصدر قوة البلاد الأوروبية، وما السر في انحطط المسلمين؟ السؤال الذي صار المسلمون يطرحونه منذ أواخر القرن الثامن عشر.
الإجابة التي وجدها معظم مفكري الإصلاح المسلمين عن هذا السؤال بحسب أومليل، كانت هي أن قوة الغرب تعود أساسًا إلى نظام الدولة فيه، وفي المقابل فإن تخلف بلدانهم وبلدان الشرق عمومًا، يعود إلى تخلف نظامهم السياسي، ومن ثم صارت مسألة إصلاح وتجديد جهاز الدولة هي مدار الفكر العربي والإسلامي الحديث.
هل المشروع الليبرالي العربي ممكن؟
في الفصل الخامس من كتابه يناقش أومليل مشروع أحد المفكرين المصريين الذين كونوا مشروعًا ليبراليًا أكثر وضوحًا في أفكاره في هذا الإطار، ألا وهو طه حسين. يتوقف أومليل هنا عند مشروع الأخير كنموذج للمدرسة الليبرالية في العالم العربي، ومن خلال هذا النموذج يطرح تساؤلًا مفاده: هل الليبرالية ممكنة في عالمنا العربي؟
يتأمل أومليل في سيرة طه حسين الذي عاد إلى مصر بعد سفره في بعثة دراسية إلى فرنسا عقب الحرب العالمية الأولى، وقد تبلور في ذهنه مشروع إصلاحي يستهدف تنوير مصر، وكان متأثرًا في هذا السياق بدروس إميل دوركاييم عن فيلسوف المجتمع الصناعي الفرنسي سان سيمون.
يلاحظ أومليل أن هناك سوء فهم منذ البداية في مقاربة طه حسين، ذلك أن سان سيمون كغيره من مؤسسي المدرسة الاجتماعية الفرنسية ولدت أفكارهم في مجتمع انقلبت أوضاعه رأسًا على عقب إثر سلسلة الثورات التي قامت بها الطبقة الوسطى الحديثة في أوروبا الغربية وعلى رأسها ثورة 1789 الفرنسية، وكذلك بعد التغيير الاجتماعي الشامل الذي أحدثته الثورتان الصناعيتان الأولى والثانية، ولذلك تشكلت أفكارهم بناء على هذا الواقع الجديد الذي خلقته البرجوازية المعاصرة، وأنهت من خلاله المجتمع التقليدي بهياكله وقيادته.
منذ البداية كان هناك سوء فهم من لدن طه حسين لتلك الخلفيات التاريخية والاجتماعية، فمصر لم تشهد انقلابًا صناعيًا، ولم ينتهِ فيها المجتمع التقليدي، ولم تتشكل فيها حتى ذلك الحين طبقة وسطى قوية بعد. يبدأ أومليل من تلك النقطة ثم يسجل الكثير من الملاحظات عن فكر طه حسين الذي يسعى إلى تجذير الثقافة المصرية في التراث الأوروبي اليوناني، في محاولة تتنافى مع الواقع التاريخي والجغرافي والثقافي لمصر، ومن ثم ظلت أفكار حسين عن الفلسفة والديمقراطية بجذورهما اليونانية القديمة والتنوير والتحديث بخلفياتهما الأوروبية الحديثة، منقطعة عن سياقها الحضاري العربي والإسلامي الحي والحقيقي.
الأزمة البنيوية للدولة الوطنية العربية
في الفصل الأخير من كتابه يحاول أومليل الوصول لإجابة عن سؤال: لماذا كانت مسألة الحكم هي مدار الفكر الإصلاحي السياسي العربي الحديث؟ وهل كانت انشغال المفكرين المسلمين بسؤال الدولة هو صدى لصورة «الاستبداد الشرقي» عند الغربيين، أم كان ذلك تعبيرًا أصيلًا عن حاجة ماسة للإصلاح على هذا المستوى.
يقول أومليل أن التأثير الغربي هنا ظاهر ولا يمكن إنكاره، إلا أنه لا يكفي ليفسر لماذا كانت تلك القضية بالذات قضية جوهرية في الفكر العربي الحديث. ويعتقد أومليل أن التفسير ينبغي أن يتوجه هنا إلى الكيفية التي أسس بها جهاز الدولة في البلاد العربية في العصر الحديث.
يخلص أومليل على أن مشكلة جهاز الدولة في العالم العربي هي مشكلة بنيوية، تعود في أصلها إلى بدايات التوسع الرأسمالي والاستعماري في المنطقة العربية ومحاولة إدخالها في النظام العالمي، حيث أدخلت على بنية الدولة «إصلاحات» و«تنظيمات» إدارية وقانونية بقصد ربطها بالسوق العالمية، وأدى هذا إلى نشأة جهاز الدولة تابعًا منذ البداية.
في إطار ضبط البلاد وإعدادها للاستثمار الشامل لصالح الخارج، تضخم جهاز الدولة وتغلغل في المجتمع، وتكسرت تنظيمات المجتمع التقليدي التي كانت تؤطر حياة الفرد على مختلف المستويات، ومن ثم صارت الدولة هي المتكفل بجميع شئون المجتمع، ولذلك صارت تحتل الدولة مركز الصدارة في الفكر الإصلاحي العربي الحديث، لأنها أصبحت كلية الحضور في المجتمع من جهة، وصارت بحكم التبعية عاجزة عن أداء المهام المطلوبة منها من ناحية أخرى. وحتى هذه اللحظة نعيش جميعًا قابعين تحت وطأة هذه الأزمة التي تظلل مختلف مجتمعاتنا العربية.