«أتمنى أن يأتي بعدي.. بعد موتي من ينصفني، ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية والتحمس لكل شيء حسن وصالح وجميل، لأنه كذلك، لا عن رغبة في الانتفاع به».
هكذا كتبت الشاعرة والأديبة والمترجمة ذائعة الصيت «ميّ زيادة»، وهي في الفصل الآخير من حياتها، تنشد الإنصاف بعد كُل الطنات التي تعرضت لها في حياتها القصيرة المليئة بالصدمات والجراح.
ولما لا! وهي الرقيقة دقيقة الأنامل، التي توجت يومًا، من قلب القاهرة، كملكة على عرش الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن انتهى بها الأمر في لبنان كنزيلة في العصفورية أو المصحة العقلية، بين محاولة التحرّر من قيد الحرية وجلد الذات، بين غياب العدالة وانتصار الظلم.
مكثت «ميّ زيادة» في العصفورية ضلمًا مدة تتجاوز السبعة أشهر، بعدما غدر بها الجميع، بداية من ابن عمها «جوزيف زيادة» الذي تآمر عليها، واستولى على أموالها، ثم زجها بها لظلام العصفورية، ونهاية بصفوة المجتمع الثقافي من أدباء عصرها الذين ضمهم صالونها الأدبي.
ليالي العصفورية: ليالي إيزيس كوبيا
هناك معلومة تاريخية مؤكدة، إن «ميّ» كتبت تفاصيل معاناتها بالمصحة العقلية في مخطوطة مفقودة إلى يومنا هذا، سمتها «ليالي العصفورية»، لم يعثر عليها أحد، وأغلب الظن إنها أتلفت بيد أقاربها ليخفو الحقيقة، أو بيدها هي شخصيًا في نوبة من نوبات إكتئابها، فمن المعروف أن «ميّ» قامت بحرق مجموعة من أرشيفها المكتوب.
وعن تلك المخطوطة الضائعة تدور حبكة الرواية الأخيرة للروائي الجزائري «واسيني الأعرج»، والمعنونة بـ «ميّ: ليالي إيزيس كوبيا – ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية»، والذي كتبها كسيرة ذاتية متخيلة تحكي على لسان «مي زيادة» مع حدث لها ومعها وهي في قمة مجدها الأدبي.
مي ليالي إيزيس كوبيا
تسير الرواية في خطين للسرد، الأول: اعتمد على خيال الكاتب في رحلته للبحث مخطوطاتها، والثاني: اعتمد على الواقع التاريخية المسجلة كحقائق حدثت بالفعل للأديبة المُفترى عليها.
بدأ «واسيني» روايته عن «ماري إلياس زيادة» أو «ميّ زيادة» بحيلة ذكية، جاءت على غرار خدعة «يوسف زيدان» في روايته الشهيرة «عزازيل»، حيث يقنعك بإنه ذهب في رحلة يقتفي فيها أثر المخطوطة حتى عثر عليها، وعندئذ يتركك مع المخطوطة التي كتبها على لسان «ميّ» كراوي يسرد ويفند الأحداث ويضعها في نصبها السليم.
عاشت «ميّ» متنقلة ما بين عدة مدن، صباها كان في مدينة الناصرة بفلسطين حيث ولدت في الناصرة في 11 فبراير عام 1886.
كابنةً وحيدةً لأب من لبنان وأم سورية الأصل فلسطينية المولد.
وتحكي الرواية عن دراستها الابتدائية في الناصرة، والثانوية في عينطورة بلبنان، وكيف هاجرت مع أسرتها للإقامة في القاهرة عام 1907، حتى أنشأ والدها جريدة «المحروسة» حيث كانت تكتب فيها مقالات أدبية، إلى أن ذاع صيتها بين الوسط الثقافي والأدبي في مصر.
لتقول «ميّ» عن هذا:
«ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد».
أما عن اسم «إيزيس كوبيا»، فهو الاسم المستعار الذي وضعته «ميّ زيادة» على غلاف ديوانها الأول «fleurs de rêves – أزاهير حلم»، والذي كتبته بالفرنسية، وصدر في القاهرة عام 1911، ليكون أول أعمالها الأدبية.
وعن لغز اختيارها لهذا الاسم بالذات، فهو الترجمة الحرفية لـ «ماري زيادة»، حيث «إيزيس» أخت الإله وعروسه، إلهة الخصب والأمومة عند قدماء المصريين.
و«ماري» أم الابن وعروس البحر.
أما «كوبيا» اللاتينية مرادفة لزيادة، أي الشيء الفائض الوفير الغزير.
لكنها اختارت لنفسها اسم «ميّ» فيما بعد، كتصغير من اسم «ماري».
مي زيادة
لقد استطاع الروائي «واسيني» أن يتقمص شخصية «ميّ»، ويكتب عن لسانها قصة أيامها الآخيرة، كسيرة ذاتية متخيلة، بلغة سلسلة وشديدة العذوبة والأناقة، تزاوج بين الفصحى واللهجة اللبنانية والفرنسية أحيانًا.
جحود العقاد والرافعي وطه حسين
أكثر ما يلفت النظر في رواية «ميّ: ليالي إيزيس كوبيا» عن شخصية «ميّ » المثيرة للجدل، إنها كانت ذات خلق وحشمة وحياء وشديدة التدين، نظرًا لتربيتها في المدارس الكاثوليكية، بخلاف الصورة الماجنة التي رسمها الأدباء المحيطون بها.
فضلًا عن جحود وزيف مشاعر الحُبّ والصداقات في المحفل الأدبي والثقافي، من جانب جميع قاماته ممن تشدقو بعبارات تحرير المرآة والثورة على التقاليد الرجعية البالية، وتغنو في حُبّ «ميّ» حتى لقبت بـ «معشوقة الأدباء والشعراء».
ففي صالون «ميّ» الأدبي، المعروف باسم «ندوة الثلاثاء»، جمعت – لعشرين عامًا- صفوة كتاب عصرها وشعرائه ومفكريه، وكان من أبرزهم: «أحمد لطفي السيد، عبدالعزيز فهمي، سليمان البستاني، داود بركات، مصطفى عبدالرازق، عباس العقاد، طه حسين، شبلي شميل، يعقوب صروف، أنطون الجميل،مصطفى صادق الرافعي، خليل مطران، إسماعيل صبري، وأحمد شوقي».
«ميّ زيادة» و«جبران خليل جبران» قصة حُبّ أفلاطونية.
لقد أحبّها أغلب هؤلاء، أو أدعو هذا، وما أن رفضت مشاعرهم، حتى أن «طه حسين» خصص في سيرته الذاتية «الأيام» فصًلا كاملًا للحديث عن «مي»، جاء تحت عنوان: «كنت في ذلك المساء هلالًا» وصف فيه صوتها ووقع سماعه على نفسه لأول مرة، وكان ذلك عندما حضر الحفل الذى أقيم بدار الأوبرا يوم 24 إبريل عام 1913، تكريمًا لـ«خليل مطران» بمناسبة منحه وسامًا من الخديو عباس الثانى، فقال عن حسن صوتها:
«لم يرض الفتى عن شيء مما سمع إلا صوتًا واحدًا سمعه فاضطرب له اضطرابًا شديدًا أرق له ليلته تلك، كان الصوت نحيلًا، وكان عذبًا رائقًا، وكان لا يبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب، فيفعل فيه الأفاعيل، وكان صوت الآنسة مي التي كانت تتحدث إلى الجمهور للمرة الأولى».
كما أن «العقاد» عرف صالونها الأدبي في عمر السابعة والعشرين، وهي كانت في الحادية والعشرين، ولم يترك مناسبة إلا وراسلها بشأنها، فكتب إليها ذات يوم:
يا بنت لبنان أقريك التحيّة من هضاب لبنان بين البحر والشُّهب
أمسيت ضيفك في لبنان أرضي بها وشي الضباب برود الحسن والطّرب
أرى مثالك فيها حيثما طمعت عيني وأخلو به في كل مرتقب
أخذ حُبّ «العقاد» لنابغة الشرق «ميّ» يتوارى شيئًا فشيئًا، بعد ظهور نجم «جبران» في الأفق وبدأ مراسلاتها معه، بعدما عاشت معه قصة حُبّ شائك وملتبس، لم يقدم «العقاد» على خطوة الزواج منها، لعله لم يفكر فيه أصًلًا، لوجود عائق ديني، فهو مفكر وكاتب إسلامي وهي مسيحية الديانة.
في العموم، فإن جميع أدباء عصرها أحبوها، لكن «ميّ زيادة» عندما أعلنت إخلاصها لحبها الأفلاطوني «جبران خليل جبران»، رغم أنهما لم يلتقيا ولو لمرة واحدة، ودامت المراسلات بينهما لعشرين عامًا: من عام 1911 إلى وفاة عام 1931، حتى أنهال عليها رفقاء صالونها الأدبي بسياط ذكورية الرجل الشرقي.
وعندما فقدت جميع حوائط آمانها النفسي، بوفاة والدها عام 1929، ثم وفاة «جبران» عام 1931، وبعده وفاة والدتها عام 1932، حيكت ضدها مؤامرة دنيئة, بموجبها حصل ابن عمها على توكيل لإدارة أملاكها، واستدرجها من القاهرة إلى بيروت، متهمًا إياها بالجنون، وأوقعت إحدى المحاكم عليها الحجْر، ليزج بها في ظلام العصفورية ببيروت.
حتى مَن كان يتكالب لحضور صالونها الأدبي من كبار المثقفين وقامات الأدب، صمو أذانهم عن ما تتعرض له، وصدّقوا جنونها، بل وروجوا له، وتركوها بدون حتى دون إثارة قضيتها بسطر واحد فى مقال منصف يسأل عن مصيرها. أقسى السياط التي أنهالت عليها ضربًا، جاءت من خطئها القاتل فى تقدير وتقييم من حولها في الوسط الثقافي والأدبي، أصدقائها من قادة الفكر المثقفين، من دعاه التقدم في حين إنهم منغرسون في التخلف، حتى أن العديد منهم أخذ سيرتهما للحديث، وبعضهم عرض رسائلها السرية معه بعد وفاتها.
في محنتها
اكتشفت أن «العقاد»، مؤلف رواية «سارة»، والتي قيل أن «ميّ» هي بطلتها، كان يريدها
جارية لرغباته، وعندما فشل في استمالتها نحوه، نهش لحمها مع الناهشين، معلنًا إنها
لم تكن في حالة طبيعية مُنذ البداية. وأن «طه حسين» تنكر لها، وهي التي وقفت بجواره
يومًا، وكتبت تدافع عنه، وقت مأزقه الأكبر عند نشر كتابه «الشعر الجاهلي»، وتقديمه
للمحاكمة بسبب ما خطّ فيه، وأن «سلامة موسى» تخلى عنها، حتى أن «الرافعي» المهوس بها
تجار باسمها ولم يسأل عنها.
تقاطع حياة «مي زيادة» مع «كاميل كلوديل»
لم يكتفي «واسيني الأعرج» بهذا، بل أشار في روايته إلى تشابه المصير الذي آلت إليه حياة «ميّ» مع النحاته الفرنسية الشهيرة «كاميل كلوديل» شقيقة الشاعر والدبلوماسي «پول كلوديل».
والتي حطمت القيم الفنية الكلاسيكية في أعمالها النحتية، وهشمت القيم الأخلاقية لطبقتها البورجوازية، وعاصرت «ميّ زيادة»، ونالت نفس مصيرها بعدما تخلى عنها حبيبها، وثارت وحطمت كل منحوتاتها، وزجت بها عائلتها لمصحة عقلية بعد إتهامها بالجنون، ولم يساندها أحد في محنتها، فجمعهما نفس المصير البائس، في ظلام أروقة المصحة العقلية، تعانيان الوحدة والخوف والخذلان.
وبأسلوب سردي مشوق يعرض لنا «واسني الأعرج» مرحلة الأيام االثلاثمائة التي عاشتهم «ميّ» تقاسي في العصفورية، إلى أن هبّ المفكر اللبناني «أمين الريحاني»، وشخصيات عربية كبيرة؛ لنجدتها بإثارة الرأي العام، حتى عادت «ميّ» إلى القاهرة لتتوفّى في أكتوبر عام 1941، ولم يمش في جنازتها إلا ثلاثة من الأوفياء، «لطفي السيد وخليل مطران وأنطوان الجميل»، ليكون قبرها شاهد على مَأْساة امرأة جرح عقلها ذكورية عصرها.
ربما لم تظهر، حتى وقتنا هذا، أديبة في الساحة الثقافية العربية أكثر لمعانًا وتأثيرًا وصخبًا منها، مع وضع الحقبة الزمنية التي عاشت فيها في الاعتبار، ومراعاة كم الأدباء والمفكرين ممن حاولوا التقرب منها والتودد إليها، تجاوزت شهرتها كونها مجرد كاتبة ذات وجه جميل، ثارت على «عصر الحريم»، وأسست عصر آخر بعطائها الأدبي والفكري.
لقد حاول «واسيني الأعرج» تناول الحياة الشخصية لأديبة استثنائية لف الغموض آخر سنواتها، في رواية بديعة تقع في 351 صفحة، صادرة عن «دار الآداب» في بيروت، وترشحت للقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية لعام 2019؛ تقفّى فيها المؤلف سيرة نابغة الشرق، ليصور حجم الدرامية البشعة والمكتملة الفصول والأركان، عن تلك الليالي الصعبة التي عاشتها الرقيقة «ميّ زيادة» في ظلام العصفورية، تعاني تآمر الظلم والفقد والوحدة والغدر والخذلان عليها، بعدما ذهبت ضحية خيانة الأهل والأقارب ونذالة الأصدقاء والمثقفين.