بداية فهذا الكتاب -الخفيف- بصفحاته المائتين، وتنوعه و تناوله السلس أحياناً والثقيل أحياناً أخرى للعديد من الأفكار المتلاطمة.
"قتلتنا الردة"
"قتلنا أن الواحد منا"
"يحمل في الداخل ضده"
هكذا بدء الكاتب جورج طرابيشي كتابة من النهضة إلى الردة
سيجبرك هذا الكتاب على الإعجاب بأسلوب جورج طرابيشي النقدي، و في اختياراته الذكية التي تقود القارئ وتستدرجه لخلاصاته واستنتاجاته هو.
على الرغم من قناعتي بأنه لو لم يجد طرابيشي أحداً لينقده لنقد نفسه، كما فعل الخطيئة عندما هجا أمه وأباه، حتى هجا نفسه فقال
"أرى اليوم لي وجهاً فـ لله خلقه"
"فقبح من وجه وقبح حامله"
وإذا انتقلنا من الكاتب الى الكتاب، وعنوانه تحديداً، الذي أستطيع أن أصفه بعد قرائتي بأنه لم يكن ملائما للموضوع - بالنسبة لي على الأقل- فالعنوان يحتمل أحد أمرين :
الالتباس أو التضليل!
يتم تضليله من اختيار مفردة (الردة) - بما تحمله من كثافة في المخيال العربي باعتبارها جرماً يستحق العقوبة- وافتراض أنها قد رافقت أية محاولة للنهضة حمله المثقف العربي.
يلتبس على متناول الكتاب بأن العرب قد أنجزوا مشروعهم في النهضة ثم ارتدوا عليه.
وهذا ما لا أعتقد أنه قد حدث في الحالتين (بإستثناء حالة نجيب محفوظ اذا افترضنا امتلاكه مشروع نهضوي تمت محاولة اغتياله على أساسه).
أما عن مضمون الكتاب، فقد خندق طرابيشي حوله بشكل ممتاز، محصناً نفسه ضد أي انتقاد مستقبلي؛ عندما قال في مقدمته :
"إن هذا الكتاب لا يجمعه وحدة في الموضوع أو المنهج"!
ففي الكتاب مجموعة من عشر مقالات، منها مقالات تتمحور حول التحليل النفسي لآراء سبعة اختارهم طرابيشي كأمثلة لكتاب عرب عانوا ما وصفه ب "الجرح النرجسي" وقدموا أفكارهم حول النهضة العربية بعد الالتقاء مع الآخر (الغربي) المتقدم حضاريا عليه.
فكان الأول هو قاسم أمين ، الذي استعرض طرابيشي مسيرته في كتبه الثلاث:
المصريون - تحرير المرأة - المرأة الجديدة، وكيف انقلب بنفسه على نفسه وغيّر أفكاره من مدافع ومنافح عتيد عن الحضارة العربية إلى داع للتبرأ منها بالكامل في جلد شديد للذات.
ثم تناول طه حسين، الذي رآه يخلط بين مفهومي التغريب والتحديث ، ويدعو إلى الأخذ بالنموذج الغربي بكامله باعتباره نموذجاً قائماً ناجحاً بدلاً من اختراع العجلة من جديد، وعدم محاولة إصلاح الوضع القائم لتعذر ذلك نهائياً، مع ضرورة التماهي مع ذلك النموذج الغربي بالكامل (بحسناته وسيئاته).
أما ثالثاً فكانت تجربة زكي الأرسوزي، هذا الفيلسوف البعثي كان اكتشافاً جديداً بالنسبة لي، وفلسفته التي تعتمد على العودة لأصل اللغة العربية ومفرداتها، ورأيه بأن نهضة العرب لابد أن تقوم بعودتهم إلى زمنهم النقي الأول -العصر الجاهلي- قبل دخول الأعاجم الذين أساؤوا للعرب و لتجربتهم العربية النهضوية المتمثلة في الدين الإسلامي، أولئك الأعاجم الذين شوهوا الإسلام العربي بإدخالهم أفكارهم ومعتقداتهم الأعجمية عليه.
ثم ننتقل لتجربة ياسين الحافظ، النهضوي العربي ذو الجلد الماركسي، والأب الروحي الأول لطرابيشي، و الذي انتقده طرابيشي ابتداءً من حيث عدم إمكانية تطبيق النموذج الماركسي عربياً لانعدام وجود طبقة بوليتاريا ناتجة عن مجتمع صناعي عربي، وانعدام وجود طبقة برجوازية حقيقية لدى العرب، وبانتفاء هذان الشرطان فلا يمكن تطبيق النموذج الماركسي عربياً حسب رأي طرابيشي إلا بحرق المراحل والتي لا يمكن ضمان نتائجها.
لنصل بعدها للفيسلوف الأديب، أو الأديب الفيلسوف، نجيب محفوظ، والذي استشف طرابيشي من مجموعة أعماله الأدبية ومن خلال تفكيك رموزه الروائية مشروعه النهضوي، والذي يقوم بشكل أساسي على علمنة الدين الإسلامي أولاً من ناحية الشكل، ثانياً تحرير الدين من المؤسسة الدينية، ثالثاً إعادة توظيف قيم الدين لخدمة البشرية، ورابعاً توكيد الحرية الفردية للإنسأن وخامساً وأخيراً إعادة فتح باب الاجتهاد الديني.
بالإضافة لست محاور فلسفية أخرى حملها أدب محفوظ:
ميتافيزيقي - أخلاقي - انطولوجي - انتروبولوجي - أيديولوجي - أسطوري.
قد يحتمل مشروع محفوظ -إذا وجد أصلاً-هذه المعاني والأهداف ، ولكنها تبقى في باب افتراضات قدمها طرابيشي للقارئ حسب رؤيته هو - طرابيشي- لذلك الأدب.
سادساً كان محمد أركون، المفكر ابن الثقافة الفرانكوفونية وأدواتها في التحليل و الدراسة، الذي فشل - حسب طرابيشي- بدوره كوسيط بين الفكر الإسلامي و الأوروبي.
وتناول طرابيشي دور الجرح الذي أدى للتغيير الفكري لدى أركون، عندما انتقد أركون الغرب في تعاطيه مع قضية سلمان رشدي، ليعيد أصدقاؤه الغربيون اجترار التهم الاستشراقية الجاهزة ضد أي مفكر مسلم يخالفهم فوصفوه بأنه متخلف ورجعي إلخ، ليصل بعدها أركون لنتيجة أن كلا العقلين العربي والغربي في أزمة، فلا يمكن إصلاحهما أو التقاء العقلين.
كما انتقد طرابيشي مفهوم "عصر الصفاء الأول" لدى اركون والمتمثل في عصر الخلافة الراشدية باعتبارها نموذج نهضوياً عربياً.
وختاماً، تناول أفكار جلال أحمد أمين الذي وصف أطروحاته بأنها "نقد صحفي مستعجل" تعتمد على "التهويل والتهوين معاً".
والذي تتجاوز مشكلته العولمة، لتصل إلى الحداثة بنمطها الغربي، ومطالبته بالخروج مطلقاً من هذا العصر لا مجرد مقاطعته.
لابد من الإشارة في النهاية إلى أهمية المقالات الثلاث الأخرى في الكتاب والتي تشرح ملامح غير كاملة - برأيي- لرؤية ووجهة نظر طرابيشي.
ولابد للقارئ بعد نهاية الكتاب من استخلاص أن النهضة العربية لم تتأخر لسبب واحد، ولن تقوم أيضا إذا اعتمدنا على حل واحد؛ بل هي مجموعة من التغييرات التي يجب أن تتناغم وتتظافر لتؤدي بنا إلى نهضة حقيقية لا ردة بعدها.
من النهضة إلى الردة مع جورج طرابيشي