ورطة القارئ في الأعياد

تبدو عطل الأعياد بمثابة شهيق طويل نلتقط فيه أنفاسنا، بعد مسيرة الأعمال المحمومة، ودائرة الروتين اليومي، نخلد فيها للوسائد باطمئنان، نلتهم السعادة مع سكاكر الصغار وحلويات العيد. حتى تداهمنا تلك اللحظة الفارغة! تلك اللحظة التي تقع وسط نهر الزمن اللاهث وتتجمد العقارب فيها فتبحث داخلك وحولك عن ما يمكن أن يملأها: فيلم؟ كتاب؟ أم نزهة مختلفة؟


قراءات في فترة الأعياد
فرانكشتاين في بغداد

بطل الرواية هو: (هادي العتاك) بائع كراكيب -أو روبابيكا كما تُسمى في مصر- يعيش في حي البتاوين وسط بغداد 2005.

اختلط ولعه بالأثاث القديم بشغفٍ مختلف، فوجد نفسه فجأة أثناء جولاته في المدينة يلتقط قطع اللحم البشري المتناثر حوله، ثم يلصقها ببساطة عند عودته لخرابته! كان يفعل ذلك كما يلتقط البضائع المستعملة من كل مكان ويلمعها وينظفها ليعيد استخدامها.

استفزه منظر الجثث حوله، نادته البقايا المرمية على أسفلت بغداد الحار، سواءً كانت ظاهرة على قارعة الشوارع، أو منسوفة بإهمال على الأرصفة: أحشاء كبد، ذراع و زند، فخذ، أنوفٌ وأحداقٌ ذات أهدابٍ سود. أشلاء الأوادم استفزت بائع الحاجيات المستعملة المخمور وجعلته يلمها، يقول في الرواية مبرراً فعله:

“إنها جثث يا عالم، لحم ودم مرمي على الطريق”.

مطبخ زرياب

 فاروق باحثٌ ومترجم سوري فرانكفوني يعيش في باريس، استعار فاروق اسم زرياب لتوقيع مقالاته التي تطرق فيها -ربما للمرة الأولى- لفن الطبخ وثقافة الطعام العربية بمجملها في المشرق والمغرب، ونشرها في مجلة “قنطرة” الفرنسية.

تَنَكرَ فاروق تحت اسم زرياب وبدأ بكتابة وصفاتٍ شغوفة من مطابخ العالم أجمع، كان ينتقي الأطباق بروح زرياب الدقيقة المرهفة ويكتب وصفاتها بشعرية ملفتة، ذاعت أنباء هذا الزرياب الجديد في أوساط الموائد والأدب مما دفعه لكشف قناعه أخيراً وإصدار الكتاب كاملاً بالفرنسية.

يقول المؤلف في الكتاب:

“هو أبو الحسن علي بن نافع، لُقِبَ بزرياب وهو طائرٌ أسود اللون، بسبب دكنة بشرته وعذوبة صوته وحلاوة شمائله”.

“علم زرياب أهالي قرطبة إعداد المآكل البغدادية الأكثر تعقيداً، وترتيب أطباق الوجبة على الموائد الأنيقة، فأفتى بأن لا يقدم الطعام دفعة واحدة أو كيفما اتفق، بل يجب البدء بالحساء، تتبعه أطباق اللحوم والطيور المطيبة بالتوابل الحارة، ثم الأطباق المحلاة، فالحلوى المصنوعة من الجوز واللوز والعسل، أو الفاكهة المجففة المحشوة بالفستق والبندق. ونصح بتغطية موائد الطعام بأغطية من الجلد الناعم الرقيق بدلاً من شراشف الكتان الخشنة، وبين أن الكؤوس الزجاجية الفاخرة آنق على المائدة من آنية الذهب أو الفضة”.

“لا شك إذاً في أني كنت مغتراً بنفسي شديد الغرور، أنا العارف بكل ذلك ، حين استعرت خلال ست سنوات اسم زرياب لتوقيع مقالاتي المتواضعة في فن الطبخ”.



نعيشها لنرويها

“ليست الحياة ما عاشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره كي يرويه”.

قرأت هذه السيرة بترجمة رفعت عطفة وبنشر دار ورد وفي 515 صفحة من القطع المتوسط، لقد صمدت تلك النسخة الفولاذية أمام كل الظروف والانتقالات، وأعدت مصافحتها مرات عديدة، عبرها دلفت لأول مرة لعالم ماركيز بطريقته الحكائية التي لا يشبهه فيها أي كاتب، وشعرت بحسرة إزاء قطمة النهاية في آخر صفحة، لأدعو مع بقية القراء حول العالم أن يستأنف كتابة سيرته حتى مات وتضاربت الأقوال بين أن يكون قد استكمل كتابتها أم لا.

كان مشهد البداية يتكرر داخل عقلي كشريط فيديو فاسد يكرر اللقطة: ماركيز وأمه وهما في القطار لزيارة قرية جده (أراكاتاكا)، وحوارهما في البداية:

“شقت طريقها بمشيتها الرشيقة بين طاولات الكتب المعروضة، وانتصبت أمامي تنظر إلى عيني بابتسامة ماكرة من ابتسامات أحسن أيامها، ثم قالت لي قبل أن أتمكن من القيام برد فعل: ـ أنا أمك”.


كالماء للشوكولاتة

“الدعوة إلى المائدة وإلى الفراش تكون لمرة واحدة فقط”.

تستهل الرواية بهذه الجملة وهذا يجعلني أقبض على دفتي الكتاب بحرص. أقرأ فصول الرواية المقسمة لشهور السنة الميلادية، والمعنو باسم وصفات الطعام المكسيكية الشعبية، أغوص في عالم مطبخ الحب ولذائذ الجدة تيتا، المروية على لسان الحفيدة طوال صفحات الرواية الـ ٢٥٥، خلال ثلاث أيام غاب فيها الزمن، وجعلتني لاورا إسكيبيل أسكن بين روائح الورد المطهو تارة، وروائح الكبريت العطنة تارة، وروائح ومذاقات لم أتخيلها تارة أخرى! خائضة صراعات المنزل التقليدي الكبيرة بين ثلاث شقيقات وأمهن المكسيكية الحازمة والطاهية الصماء.

هذه الرواية كتابٌ بهيج، مشوق، وخير ما يُقرأ في أيام الأعياد، وأصوب مايمكن أن يصفها  ما كتبه (الكاتب نزار الحمود) عنها في قراءته الرائعة في مقاله السابق على أراجيك:

“يمكن تصنيفها كفاتح شهية؛ فاتح شهية للطعام والطبخ والقراءة لكتاب أمريكا اللاتينية والحب والتمرد”.


والآن.. كقارئ: كيف تنجو من ورطة الأعياد؟

  1. اقرأ لكاتبة: ليس تحيزاً، لكن الكتابات النسائية ممهورة بالقص الأنثوي المشوق.
  2. اختر كتاباً لا يتجاوز المئتي صفحة: من الجيد لك أن تشعر بالإنجاز حين تقرأ الكتاب كاملاً في هذه الإجازة.
  3. اقرأ عن مواضيع جديدة: كن جرئياً في اختيارك لموضوع الكتاب.. (كتاب عن الطعام، رواية عن القطط، قصة أطفال طويلة، حكاية من الفلكلور، إلخ).
  4. اختر كتب اليوميات والسير القصيرة.