قام “ويليام جولدينج” بكتابته تلبية لدعوة من دار النشر الإنجليزية Faber and Faber، كان هدفها أن يؤلف الأديب كتاباً عن مصر تقوم الدار بنشره. وقد اختاروا “جولدينج” لعلمهم بأن الاهتمام بشؤون مصر كان إحدى الهوايات التي لازمته طوال حياته.
وقد تم نشر الكتاب عام 1985، وتم ترجمته إلى العربية عام 2011 بواسطة “سمير محفوظ بشير” عن المركز القومي للترجمة. يبلغ عدد صفحاته حوالي 300 صفحة قسمها “جولدينج” إلى ثمانية عشر فصلاً.
في البداية.. من هو”ويليام جولدينج”؟
ولد “ويليام جولدينج” عام 1911 في مقاطعة كورنيل بجنوب غرب إنجلترا، ودرس الأدب الإنجليزي بجامعة أكسفورد، ثم انضم عند بداية الحرب العالمية الثانية إلى سلاح البحرية البريطاني، وشهد عدة معارك ضد السفن والغواصات الألمانية، وأصبح عند نهاية الحرب قائداً لإحدى سفن المدفعية. وقد عمل بعد انتهاء الحرب وحتى عام 1960 مدرساً للأدب الإنجليزي، قبل أن يتفرغ نهائياً للكتابة.
حازت روايته “ملك الذباب” على جائزة نوبل للأدب، بعد أن تم رفضها من عشرين داراً للنشر. وفي عام 1955 ظهرت للمؤلف رواية “السلالة”، التي تعتبر تكملة وتأكيداً لرواية “ملك الذباب”. والمثير أن كل روايته كانت تتبنى موضوعاً واحداً وهو الشر الكامن في أعماق البشر والذي ينهزم الإنسان له مهما بلغ من حضارة ليتحول إلى وحش لا يعرف الرحمة.
وبعد رحلته إلى مصر ونشر كتاب “يوميات مصرية”، قامت الملكة برفعة إلى درجة النبلاء ومنحته لقب”سير” فأصبح يدعى Sir William، قبل أن يموت في المقاطعة التي ولد فيها عام 1993.
من اللازم أن نذكر أن رحلة “ويليام جولدينج” إلى مصر عام 1984 لم تكن رحلته الأولى، بل كان قد زارها سابقاً عام 1976، ليكتشف وقتها أن مصر الواقع تختلف عن مصر الخيال. أي أنه كان في المرة الثانية عام 1984 مهيئاً نفسياً للمفاجآت.
وكما قلنا سابقاً إن “جولدينج” قام برحلته بدعوة من إحدى دور النشر، التي تركت له الحرية الكاملة أولاً فيما يتعلق بتنظيم الرحلة، ثانياً فيما يتعلق باختيار موضوعات الكتاب. والأديب قد اشترط ألا يكون الموضوع هو الآثار المصرية القديمة، فقد كان يسعى منذ البداية إلى التعرف على الحياة اليومية للمصريين.
وعلى هذا الأساس فقد رفض أن تكون رحلته من القاهرة إلى الأقصر في سفينة سياحية. وبدأ في البحث عن يخت خاص يقوم بالرحلة! الأمر الذي كان صعباً جداً في القاهرة في ذلك الوقت. وبمساعدة مرشد سياحي يتمكن من العثور على قارب بخاري في “المعادي” يستأجره لتبدأ رحلته على متنه. وبشكل ما يتحول هذا القارب ومحركه ومشاكله من قلة الأثاث والأغطية إلى بطل الرحلة التي يقوم بها “جولدينج” ليرصد الحياة المصرية!
وعلى الرغم من الملل الذي قد يصيب القارئ في هذا الجزء من كتاب “يوميات مصرية”، إلا أن “جولدينج” بالفعل يتمكن من ملاحظة الكثير من سمات الشخصية المصرية وتعاطيها للمشكلات وقدرتها على إيجاد حلول غير متوقعة من خلال محاولات قائد القارب الدائمة للتغلب على مشكلات المحرك.
مشكلة توقيت الرحلة
قام “جولدينج” بهذه الرحلة النيلية في شهر فبراير عام 1984، وعليه اتضح فيما بعد خطأ فكرة استئجار قارب، حيث انخفض منسوب المياه في النيل، فكان القارب أكثر انخفاضاً من ضفتي النهر، وأصبح أكثر ما يراه “جولدينج” طوال الوقت هو النهر ليس إلا!
النهر والأهرامات أيضاً، ليس أهرامات الجيزة، وإنما الأهرامات الكثيرة على الضفة الغربية للنيل، بين القاهرة وبني سويف، ومن بينها هرم “ميدوم”، الذي يبدي “جولدينج” إعجابه الكبير به، والذي سيقوم بزيارته بعد عودته إلى القاهرة من رحلة الأقصر.
تناقض عجيب يراه “جولدينج” بين آثار الماضي الرائعة وأبنية الحاضر الكئيبة، مثل مصانع الطوب الأحمر ومداخنها التي تفسد المنظر على ضفاف النيل تماماً. يبدأ في الشعور بارتياح متزايد كلما ابتعد القارب عن بني سويف، ويتحسن الوضع عند المنيا، حتى يصبح رائعاً جنوب أسيوط، كل هذا دون أن تنتهي مشكلات المحرك الدائمة للقارب.
الشخصية المصرية بعيون ويليام جولدينج
رغم كل المشاكل التي تعرضوا لها خلال الرحلة، فالكاتب الذي كان يبلغ من العمر وقتها الثانية والسبعين، والذي لا يجيد العربية، يعيش هو وزوجته مع خمسة من المصريين، لا يتكلم منهم الإنجليزية سوى المرشد السياحي، لكنه لا يشكو منهم أبداً. سلوك هؤلاء المصريين البسطاء الفقراء تجاهه وزوجته لا غبار عليه. أدب وحرص على احترام الغير وعدم تجاوز للحدود، والرجل يشعر وسطهم، رغم ما يحدث أحياناً من اختلاف في الرأي لا يمكن تفاديه، بشيء من الألفة. حتى أنه يذكر في الفصل الثاني من الكتاب أنه يتخيل نفسه وقد تحول إلى مصري عجوز.
وعلى الرغم من ذلك لم يمنع هذا السلوك الكاتب من إنتقاد الشخصية المصرية وسماتها في النصف الثاني من القرن العشرين دون أن يقوم كمفكر بمحاولة للكشف عن خلفية الأسلوب المصري في التعامل مع الحياة، وإنما يكتفي بالوصف فقط. فيصف شعور المصريين الدائم بالأمن مع يقينهم الدائم من توفر الماء والخبز والدفء، وما لهذا اليقين من تأثير على الشخصية المصرية التي كانت وما زالت لا تميل إلى الاستعداد والقدرة على التطور والتغيير!
كذلك ينتقد بشدة اعتقاد المصريين الدائم بفكرة (الحياة بعد الموت)، ويرى أن هذا المعتقد هو السبب الأكبر في إهمالهم للحياة، ومحاولة التجريب فيها والتغيير. وأيضاً يعلق كثيراً على عدم وجود مبدأ التخطيط لحل المشكلات لدى الشخصية المصرية وميلها دوماً لحل المشكلات بطريقة عشوائية تعتمد على الإيمان بالحظ فقط.
ولكن ذلك لم يمنع انبهاره الشديد ببعض الأمور وخاصة المتعلقة بالهندسة والبناء لدى المصريين فيعلق كثيراً على مدينة “جرجا” التي تخصص أهلها في صنع الفخار والسجاد وأيضاً في النجارة، ويعطي مساحة واسعة لوصف منازل هذه البلدة التي بنيت من الأصص والآنية الفخارية غير الصالحة للبيع لوجود خدش بها أو شرخ. والدهشة التي يبعثها المنظر.
في النهاية، لا يمكننا إهمال الجزء الخاص بزيارته لقناة السويس، والذي ورد في الفصل الثالث عشر من الكتاب، ويقول فيه:
“خلال رحلة قمت بها إلى قناة السويس شاهدت بنفسي نتائج عملية حربية مصرية حديثة، فقد نجح المصريون في عبور القناة تحت وابل من طلقات المدافع، ثم قاموا بفتح ثغرات في تلال الرمال، تسمح بعبور المشاة أولاً، ثم الدبابات، وأخذوا يتعاقبون عبر القناة كالأمواج، موجة بعد الأخرى، دون توقف، ودون أدنى اكتراث بالخسائر الكثيرة في الأرواح، حتى تمكنوا في النهاية من تحرير الضفة الشرقية في القناة. هذه العملية الحربية المصرية الحديثة جديرة بأن تسجل في أعلى قائمة معارك البطولة والتضحية التي عرفها تاريخ البشرية”.
هذه الشهادة التي وثقها “جولدينج” في كتابه لها وزنها الحقيقي لأنه كان ضابطاً بالبحرية البريطانية كما ذكرنا سابقاً أي أنها حديث رجل عسكري متخصص، وإن كانت مهنته الرئيسية هي الفكر والأدب..