ربما تكون المرة الأولى التي يشكل فيها وجود شخصية المعرض في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2020 محفزًا لعدد من الكتاب لاستعادة بحث واستكشاف العديد من جوانب وكتابات وعالم تلك الشخصية، ليس من خلال الحديث عن سيرته وكتاباته، ولكن من خلال المشاركة في الكتابة عن تلك المدينة العامرة الزاخرة التي تخصص في الحديث عنها وكشف عالمها، عن جمال حمدان وشخصية مصر نتحدث، وحكايات وسيرة مصر العربية والقاهرة تحديدًا، وما دار ويدور فيها منذ زمن، وكيف استطاعت أن تصبغ نفسها بتلك الصبغة شديدة الجمال والخصوصية.
القاهرة شوارع وحكايات
في البداية وجب أن نشير إلى أنها ليست المرة الأولى التي يركز فيها الكتاب على مواضيع تخص القاهرة والحديث عن تاريخ وحكايات معمارها بشكلٍ يركز على ما اقترحه جمال حمدان باسم «عبقرية المكان»، والبحث وراء أسرار وحكايات كل شارعٍ وزقاقٍ وحارة، بل والفرق بين الشوارع العربية التاريخية والأوروبية الحديثة، وما إلى ذلك، فقد كتب الروائي حمدي أبو جليل كتابه «القاهرة شوارع وحكايات» الذي صدر عام 2008، وقامت الهيئة العامة للكتاب بإعادة طباعته هذا العام، عرض فيه بشكلٍ مفصّل لعدد من حكايات شوارع القاهرة وما يحتفظ به سكانها من أخبارها وما تحويه من أسرار.
قسّم أبو جليل كتابه إلى أربعة أقسام، توزّعت عليها شوارع ومناطق القاهرة الأساسية، بين القاهرة العربية في فصلين (الفاطمية والخديوية) ومصر القديمة التي خصها بفصل بمفرده، ثم فصل أخير عن شوارع حديثة بعنوان جزر وامتدادات، ولعل أكثر ما يميّز كتاب أبو جليل هو توسعه في الحديث عن شوارع القاهرة حتى وصل بنا إلى العصر الحديث، فهو من جهةٍ يعد جولة ثقافية جغرافية تجمع بين تواريخ إنشاء الشوارع وما ارتبط به كل مكان من حكايات، ومن جهةٍ أخرى يعود إلى كتب ودوريات حديثة نسبيًا تتناول عددًا من الشوارع والمناطق المصرية الجديدة.
شارع جامعة الدول العربية يبدأ على بُعد خطوات من الضفة الغربية لنهر النيل، بميدان أنيق وواسع يتوسطه تمثال حديث للروائي العالمي نجيب محفوظـ وينتهي وسط ميدانٍ آخر يفضي إلى شارع السودان وحي بولاق الدكرور، وأهم ما يميزه فضلاً عن طول واتساع وفخامة عمارته الحديثة أنه يحافظ على مدلول اسمه، إنه شارع “الجامعة العربية” بامتياز، سواء على مستوى نوعية سكانه ورواده أو على مستوى أسماء الشوارع والمحال المحيطة به، فنظرًا لازدحامه بمئات المحلات التجارية والكافتيريات والمطاعم ذات الشهرة العالمية، ونظرًا لرقي وهدوء منطقة المهندسين التي يتوسطها، والتي يسكنها عدد من نجوم المجتمع المصري والعربي، أصبح الشارع على رأس الأماكن المفضلة للأشقاء العرب، سواء من الجاليات المقيمة في القاهرة أو من يأتون إليها كسياح في شهور الصيف.
وإذا كان حمدي أبو جليل قد اختار أن يجمع في كتابه بين القاهرة القديمة والحديثة، وأن يتناول تلك الشوارع وحكاياتها، فقد رأى كتّاب آخرون أنه من الواجب العودة إلى مصر القديمة مرة أخرى، واستكشاف حكايات أماكنها وحاراتها وأزقتها ومبانيها ومساجدها من جديد، وهذا ما رأيناه هذ العام في كتابين لفتا الأنظار في معرض الكتاب هذا العام وهما «خريدة القاهرة » للكاتب والباحث حامد محمد الصادر عن دار الرواق، وكتاب «مصريات عربية» للدكتورة رضوى زكي الحاصلة على الدكتوراه في فلسفة الآثار الإسلامية من جامعة الإسكندرية، الصادر عن نهضة مصر.
خريدة القاهرة .. سيرة الأشخاص والأماكن
يمزج الكاتب حامد محمد حامد في كتابه «خريدة القاهرة» بين الكتابة التاريخية والجغرافيا، حيث يرصد حكايات شيقة لعدد من الأماكن التاريخية المعروفة في القاهرة، في شكل مقالات متصلة منفصلة، موثقًا كل ما يذكره بالصورة والمرجع التاريخي، حيث يزخر الكتاب بعدد كبير من أهم المراجع التي تناولت التاريخ المصري في مراحلة المختلفة.
تقوم مقالات حامد محمد واختياراته على الحكايات بشكلٍ أساسي، تلك الحكايات التي ترتبط كلها بمكان محدد لا ينشغل كثيرًا بوصفه أو رسم معالمه، وإنما يكتفي بوضع صورته وموقعه، ثم يشير إلى حكايته، ولعل عناوين تلك الحكايات تجعل من الكتاب تجربة قرائية خاصة ومتميزة، حيث يمكنك أن تبدأ فيه من أي مقال/حكاية لتتعرف على أصل التسمية أو تاريخ المكان، أو ما يروى عنه من مواقف وطرائف، فلا شك أن عناوين مثل «المسمار الأول في نعش المماليك» أو «أول اغتيال بالرصاص في تاريخ مصر» أو «التحولات العجيبة لجامع بشتاك» أو «صاحب القبتين الذي كاد أن يغيّر التاريخ» أو «علي الكسيح .. نهاية مضحك السلطان» ستكون عناوين مشوّقة تدفع القارئ لقراءة هذه الحكايات والتعرّف على تفاصيلها وما فيها من طرافة وغرابة أحيانًا.
والخريدة هي اللؤلؤة المكنونة، وهو الوصف الذي اختاره الكاتب للقاهرة لأنه يرى أنها لا تبوح بكل أسرارها مهما بدا لنا أننا عرفنا عنها الكثير، وأنها رغم قسوتها وقبحها الظاهريْن تبقى مدينة عصية على الإدراك تحمل في أعماقها الكثير الذي ينتظر من يكتشفه. تجدر الإشارة إلى أن فصول الكتاب كانت منشورة متفرقة على صفحة الكاتب على فيس بوك، حتى قرر جمعها وتحريرها وتحويلها إلى لغةٍ عربية فصيحة، وتقديمها للناس بأبهى طريقة. كما وضع في نهاية الكتاب عددًا كبيرًا من المراجع التاريخية الهامة التي أخذ عنها كل تلك الحكايات والمعلومات.
مصريات عربية .. حكايات وملامح أخرى
مشاهد منتقاة من حضارة مصر في عصرها العربي-الإسلامي تعالج فكرة محورية قائمة على إبراز عناصر خصوصية طابع مصر العربية. فمن جانب نسعى لإلقاء الضوء على تجليات العلاقة بين التراث المصري القديم والعربي في صورة معتقدات اجتماعية وشعبية تارة، والاستعانة بالآثار القديمة في عمارة الآثار العربية تارة أخرى، وهو ما يميز شخصية مصر العربية المتصلة بماضيها الباهر. فنتناول مظهرًا من مظاهر اعتقاد المصريين في الأساطير الشعبية، كالاستخدام السحري للتوابيت القديمة في العمارة الإسلامية واستخدام بعض أطلال عين شمس القديمة في بناء بعض الآثار الإسلامية في القاهرة.
من الآثار وعلم المصريات تنطلق الباحثة المتخصصة في الحضارة المصرية رضوى زكي في هذا الكتاب، لتعكس وجهة نظر أخرى تربط بين مصر القديمة والعربية/الإسلامية من خلال ما بقي فيها من تراث وآثار تاريخية شاهدة على ذلك التجاور والمزج والانصهار التاريخي النادر.
هكذا تقف في فصول كتابها عند تحليل وتفنيد عدد من الأفكار والمقولات المرتبطة بتراث مصر وحضارتها بشكل عام، منذ قيل عنها إنها «أم الدنيا» مرورًا بكتاب «وصف مصر» وطرف مما ذكره جمال حمدان فيه، حتى تصل إلى الطقوس الشعبية والتراثية المصرية وجذورها التاريخية سواء كانت خيمة المولد أو احتفالات الختان، كما تتوقف عند بعض الأماكن الأثرية وتاريخها مثل «شارع السيوفية» و«جامع سليمان باشا» وكيف ترى الشخصية المصرية من خلال المنازل والمساجد والمآذن الأثرية وما فيها من جمال وما تتمتع به من خصوصية.
والكتاب رغم ما يحويه من معلومات تاريخية مفصل وموثقة، إلا أنه يعد جولة سياحية رائقة، ومكتوبة بأسلوب أدبي شيق، يجعل القارئ متشوقًا لاستكشاف تلك المعالم والمناطق الأثرية الجميلة، والاستمتاع بمعرفة ما وراء كل مبنى أثر في شوارع وحارات القاهرة المحروسة، كما أنه يجمع بين الحديث عن الآثار والمعمار وبين الحديث عن الشخصية المصرية والعادات والتقاليد الشعبية المتوارثة، وأثر كل من الحضارة المصرية والعربية عليها، وهو ما يكسبه بعدًا مختلفًا ومميزًا عن غيره.
كانت هذه جولة سريعة بين هذه الكتب الثلاث، التي استطاع كتّابها أن يأخذونا في جولات سياحية خاصة جدًا داخل مدينة القاهرة، بين التاريخ والمعمار والجغرافيا، واستطعنا أن نتعرّف من خلالهم على أسرار وحكايات القاهرة الزاهرة العامرة الزاخرة على حد تعبير الشاعر الراحل الجميل سيد حجاب.