صلاة تشرنوبل

أضخم كارثة نووية في القرن العشرين، حدثت في 26 أبريل عام 1986، عندما انفجر المفاعل النووي تشرنوبل، مخلفًا من بعده الكثير من الكوارث والضحايا، ويأتي كتاب “صلاة تشرنوبل” لمؤلفته الكاتبة البيلاروسية “سفيتلانا أليكسييفتش”؛ ليحيي ذكرى هذا اليوم، وليكن عونًا لضحايا الواقعة بأن يحكوا لنا ما حدث بالضبط.

بحكم دراستي العلمية تعرفت على ما يسمى بالعناصر المشعة، إنها من أخطر أنواع العناصر الموجودة في الطبيعة، أخبرنا أساتذتنا المتخصصون في علم الكيمياء بأنها قد تستغرق سنين طويلة حتى تخمد! ومن أكثر الأمثلة التي قصوها علينا في هذا الصدد تلك الحادثة المعروفة بتشرنوبل، التي أيقظت هذه العناصر المشعة على الأرض، فقضت على ما طالته.

ظننت يومًا أنَّ حادثة هيروشيما وناجازاكي كانت أفظع الحوادث النووية، لكن بعد البحث والاطلاع الكثير، وجدت أنني أخطأت، فكارثة تشرنوبل لم تؤثر فقط على المنطقة المحيطة بالمفاعل، بل ارتفعت سحابة غازية مليئة بالإشعاعات الضارة النشطة، واجتاحت الكثير من الدول: ألمانيا وبولونيا والنمسا ورومانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا وإسرائيل والكويت وتركيا وشمال إيطاليا.. إلخ.

وما زال البشر يدفعون ثمن غلطة غير مقصودة -على أغلب الظن- من المسؤولين عن هذه الحادثة، فهناك من فقد أهله وأحباءه، وهناك من فقد وطنًا غير مسموح له بالذهاب إليه، وإذا سُمح فيكون في أضيق الحدود لإقامة الصلاوات على أرواح الضحايا والتي أسمتها إحداهن “صلاة تشرنوبل” في كتاب يوثق التاريخ المغفل عنه لهذه الكارثة.

صلاة تشرنوبل كتاب وثق الكارثة

كتاب “صلاة تشرنوبل” للكاتبة “سفيتلانا أليكسييفتش” عن التاريخ المغفل للكارثة.

إنها “سفيتلانا أليكسييفتش” وهي كاتبة وصحفية ولدت في 31 مايو عام 1948، في أوكرانيا، درست الصحافة وعملت كصحفية في بداية حياتها المهنية، وخاضت في مجال الأدب فبرزت فيه، ولها العديد من المؤلفات التي استطاعت من خلالها أن تطرق دروبًا أدبية جديدة ومتميزة، وفي عام 2015، نالت جائزة نوبل للآداب بجدارة، ومن أشهر كتاباتها كتاب “صلاة تشرنوبل” والذي أحدث ضجة كبيرة عندما تُرجم للغة العربية على يد “أحمد صلاح الدين”، فقد كان يتضمن شهادات لمن عايشوا كارثة تشرنوبل النووية.

تتميز الكاتبة في مؤلفاتها بمناقشة القضايا الإنسانية من منظورها الخاص، ففي كتابها “ليس للحرب وجه أنثوي” عبرت عن أصوات النساء اللواتي حاربن في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية، وفي كتابها “فتيان الزنك” تحدثت عن حرب الإتحاد السوفييتي في أفعانستان، في حين جاء كتابها “آخر الشهود” متحدثًا عن ذكريات من عاصروا الحرب بين ألمانيا والاتحاد السوفييتي.

وعن كتاب “صلاة تشرنوبل” قالت المؤلفة البيلاروسية “سفيتلانا أليكسييفتش”:

“عن ماذا هذا الكتاب؟ ولماذا كتبته؟ هذا الكتاب ليس عن تشرنوبل، بل عن عالم تشرنوبل، كُتِبتْ عن الحادثة نفسها آلاف الصفحات، وصُورت مئات المرات من أفلام التصوير. أنا أشتغل على ما يمكن أن أسمّيه التاريخ المغفل، على الآثار التي لم تترك أثرًا لوجودنا على سطح الأرض وفي الزمن.

أكتب وأجمع الأحاسيس اليومية والأفكار والكلمات، أحاول الارتقاء لأكون روحًا. وأكتب عن الحياة اليومية المعيشة للناس العاديين. هنا كل شيء غير عادي: الظروف والناس وكيف أُجبروا أن يكونوا، رفعوهم ليصبحوا بمستوى الظروف، عندما أعمروا الفضاء الجديد، تشرنوبل بالنسبة لهم ليس استعارة ولا رمزًا هو بيتهم”.

سفيتلانا أليكسييفتش

الكاتبة البيلاروسية “سفيتلانا أليكسييفتش” تكتب عن التاريخ المغفل عنه.

 “صلاة تشرنوبل” ليس مجرد كتاب يضم مجموعة من القصص التي يتسلى بها القارئ، وإنما هو كتاب يوثق سلسلة من الأحداث الواقعية التي تعرض لها ضحايا الكارثة الشهيرة، تُروى على ألسنة شهود وضحايا تلك الكارثة أثناء مقابلاتهم مع “سفيتلانا الكسييفتش” الصحفية النشيطة التي أجرت المئات من المقابلات مع شهود الواقعة، فستجد الكتاب يسرد حوارات صحفية كمونولوج، لذلك كان للكتاب طابع مميز.

البداية كانت في السادس والعشرين من أبريل عام 1986، في تمام الساعة 1:23:58 صباحًا، حيث بدأت سلسلة من الانفجارات المروعة في محطة تشرنوبل للطاقة، تحديدًا في المفاعل 4، بينما كان يحضر العمال لإجراء اختبار، فحدث عطل في آليات الإغلاق التلقائي، مما جعل المفاعل في حالة غير مستقرة.

وفي نهاية المطاف انفجر المفاعل، محدثًا ضوضاء مروعة، متسببًا في دمار حياة الكثير من أهالي المناطق المحيطة بالمحطة، دُفنت القرى تحت الأرض، أخلت الحكومة كل المناطق المحيطة بالمفاعل. وبعد الكارثة فقدت البلد 485 قرية، 70 منها دفنت في الأرض للأبد، ومع ذلك لم يسلم الكثيرون من شر الكارثة النووية.

محاكمة مجرمي كارثة تشرنوبل

في عام 1986 في مبنى بيت الثقافة المحلي في قرب موقع الحادث، كان هناك 5 أشخاص في قفص الاتهام وهم: “فيكتور بريوخانوف” مدير المحطة، و”نيقولاي فومين” كبير المهندسين و”أناتولي دياتلوف” نائب كبير المهندسين، و”يوري لاوشكين” مفتش الرقابة النووية الحكومية في الاتحاد السوفيتي، و”بوريس روغوجكين” رئيس الوردية، وأخيرًا “ألكسندر كوفالينكو” رئيس قسم المفاعل.. وبدأت المحاكمة وانتهى القضاة إلى الحكم التالي:

السجن عشر سنوات لكل من: (فيكتور بريوخانوف، نيقولاي فومين، أناتولي دياتلوف) أما عن الباقين فكانت عقوبتهم السجن أيضًا لكن بمدة أقل، وتوفي “أناتولي دياتلوف” و”يوري لاوشكين” في السجن بسبب أثار الاشعاع، أما “نيكولاي فومين” -كبير المهندسين- فقد أصيب بالجنون، وعن رئيس المحطة، فقد أمضى عقوبته كاملة في السجن وخرج بعد عشر سنوات، ليمضي بقية حياته.

هل سألت نفسك وأنت تقرأ السطور السابقة: لماذا أُقيمت المحاكمة في هذا قلب الحادثة تحديدًا؟ حسنًا، في الواقع كان هذا قرارًا من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي بأن تُعقد المحاكمة في هذا المكان داخل المدينة، حيث سيكون هناك شهود أقل على المحاكمة، وبالتالي ستكون الضجة أقل، ولن يتجرأ الكثيرون للذهاب لهذه المنطقة الملوثة بالإشعاع لحضور محاكمة كتلك، كما أنَّ المدينة مقفولة بصفتها: “منطقة رقابة إشعاعية صارمة”. وتمت المحاكمة بهدوء كما أرادوا.

سردت الكاتبة “سفيتلانا أليكسييفتش” كتاب “صلاة تشرنوبل” في شكل مونولوجات، وبدأته بقصة “صوت إنساني وحيد” عن زوجة رجل إطفاء، ذهب زوجها لإخماد الحرائق الناتجة عن الانفجار، ونال جرعة عالية من الإشعاع فرُحِّلَ على موسكو، وذهبت خلفه لتعتني به في أواخر أيامه، فحصلت هي الأخرى على جرعة إشعاع أودت بحياة جنينها في نهاية المطاف، فكُتِبَ على المسكينة تذوق آلام مختلفة: ألم القلب بفقدان الأحبة، وألم الجسد المتشبع بجرعته من الإشعاع. وتقول السيدة في بداية المقابلة:

 “لا أدري عم أتحدث.. عن الموت أم عن الحب؟ أو إنهما الشيء نفسه.. عن ماذا؟”

ثم قامت “سفيتلانا أليكسييفتش” بمقابلة لنفسها، عرضت فيها رأيها الشخصي عن تلك الفاجعة، وما شهدته هي من أحداث حول الكارثة، أشارت إلى تكتم السوفييت السلبي الذي أدى في النهاية إلى تأثر البشر المحيطين بالإشعاع الناتج عن الانفجار، صورت حالة الفزع التي جعلتها تسمع عبارة: “لا أستطيع إيجاد الكلمات لأعبر عما شاهدت وعايشت” وكأن الناس أصيبوا بحالة بكم، أو أنهم لم يجدوا المفردات التي يعبرون بها عن أحاسيسهم من فرط الفزع.

بحثت “سفيتلانا أليكسييفتش” عن الكثير من الناجين من تلك الكارثة، والتقت بمجموعة متنوعة من شهود الكارثة، فالتقت بالموظفين السابقين في المحطة، وكذلك بالعلماء والأطباء والجنود، وكل من أثر تشرنوبل على حياته، جميعهم كانوا في عجلة من أمرهم، خائفين من أن يداهمهم الموت قبل أن يفرغوا ما لديهم، قائلين:

“اكتبي.. -كرروا القول- لم نفهم كل ما شاهدناه، لكن فلتبق شهادتنا تلك. قد يقرأها أحد ما ويفهمها فيما بعد.. من بعدنا”.

وعند زيارتها الأولى للمنطقة أعطى لها أهل المنطقة بعض النصائح: “لا تقطفي الورود، والأفضل ألا تجلسي على الأرض، لا تشربي الماء من المنبع” وعندما رأت أبقار ذاهبة لتشرب من مياه النهر، وما لبثت أن عادت من جديد، وكأنها تستشعر الخطر، فهمت أن أهل المنطقة لا يبالغون في نصحها.

قسمت “سفيتلانا أليكسييفتش” فصول كتابها لثلاثة فصول رئيسية وهي: (أرض الموتى – إكليل الإبداع – الإعجاب بالحزن)، وفي كل فصل من الفصول الثلاثة تعرض مجموعة من القصص على ألسنة أشخاص واقعين، منهم من فقد أحبائه، ومنهم من عانى من الكارثة ومنهم من ينتابه الحنين لوطنه الذي حُرم منه، منهم الشيخ والشاب، مهما اختلفوا في أعمارهم أو مستوى تعليمهم أو ثقافتهم يجمعهم شيء واحد، ألا وهو “الفزع”.

أرقام مجهولة ما بعد حادث تشرنوبل

ارتفعت معدلات السرطان بنسبة 74 ضعفًا بعد الحادث الكارثي، فقبل الحادث كانت نسبة الإصابة بالسرطان في بيلاروسيا حوالي 82 حالة من بين كل 100 ألف مواطن، أما بعد الكارثة أصبحت النسبة 6000 حالة من بين كل 100 ألف حالة!

ارتفعت نسبة الوفيات فبلغت 23.5% حيث يموت شخص واحد من ضمن 14 شخصًا، أما عن المناطق الأكثر تلوثًا فيموت سبعة أشخاص من بين عشرة أشخاص، وفي الريف تزداد الأعداد بشكل مذهل.

عند حدوث الكارثة، أرسل الاتحاد السوفيتي حوالي 800 ألف جندي لأداء الخدمة العسكرية في مكان الحادث، كان من بينهم 115493 شخصًا بيلاروسيًا، توفي منهم 8553 شخصًا ما بين عامي 1990 و2003 م، أي كان الموت يحلق فوقهم بمعدل شخصين منهم يوميًا.

“قُذف في الجو نتيجة الكارثة ku (6)10×50 من النويدات المشعة، 70% منها سقطت في بيلاروسيا: فأصبح 23% من مساحتها ملوثًا بالنويدات المشعة، و 4.8% من مساحة أوكرانيا، و0.5% من مساحة روسيا”.

بالرغم من أنَّ هذه الأرقام كبيرة، إلا أنها ليست الحقيقة بعد، فقد انتاب السوفييت حالة من التكتم على الأرقام الحقيقية لأنها مرعبة بدرجة كبيرة، بالرغم من الكثير من التصريحات التي صرحت بأرقام أخرى، إلا أن الأرقام الحقيقية ما زالت أرقام مجهولة.

من وجهة نظري أحيانًا عدم العلم بالشيء أفضل من العلم به! لكن هل توافقت وجهة نظري مع السوفييت؟ أم لهم أسبابهم الخاصة؟

اضطرت الحكومة لإخلاء المناطق المحيطة بالحادث، وذهب أهل هذه المناطق إلى بلاد أخرى، وتعرضوا للكثير من المواقف المحزنة، خاصةً الأطفال، مثلًا عندما يُنعت الطفل بأنه “طفل تشرنوبل” لأنه قادم من هناك، أو عندما يرفض الناس شراء محصولهم الزراعي لأنه من أرض تشرنوبل.

كما نصح الأطباء النساء الحوامل بأن يجهضن أجنتهن قبل الولادة عندما يعلمون بأنهم قادمون من المناطق المحيطة بالحادث، فإذا لم تستمع الأم لكلام الطبيب يُولد طفلها إما مشوهًا أو ميتًا، فحتى عام 1993 م، أُجري حوالي 200000 حالة إجهاض لنساء تشرنوبل.

باختصار، هي كارثة عالمية، قد يظن البعض بأنها انتهت! لكن حتى لو انتهت حرائق الانفجار فسيبقى الأثر لخمسين عام أو ربما ستين عام، بل وقد يستمر هذا الأثر لبعد انتهاء حياة الإنسان على الأرض، فقد سمعت أننا في عصر الانقراض الجماعي السادس، لكن في العصور السابقة شهدت الأرض -وبحسب دراسات علماء الجيولوجيا- خمسة انقراضات جماعية، كانت تحدث بسبب التغيرات المناخية، هل سيكون الانقراض الجماعي السادس بسبب الطاقة النووية؟ مجرد تساؤل لا أعتقد أنني سأشهد إجابته!


كتب PDF ، كتب و روايات PDF ، أفضل تجميعات الكتب، كتب عالمية مترجمة ، أحدث الروايات و الكتب العربية ،أفضل ترشيحات الكتب و الروايات، روايات و كتب عالمية مترجمة.