من حكمةِ
الله -عز وجل- وكرمه؛ أن فضّل أزماناً على أزمانٍ أخرى؛ ففضّل الله -تعالى- من
الأشهر شهر رمضان المبارك، ومن الأيام أيام العشر الأُوَل من شهر ذي الحجة، ويوم
عرفة، وجعل الله -سبحانه وتعالى- يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، ومن هذا التفضيل
أن اختار الله -سبحانه وتعالى- ليلة القدر لتكون أفضل أيام السّنة؛ فجعلها محطّ
نزول القرآن الكريم على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل لقيامها بالصلاة،
والذكر، والدّعاء أجراً عظيماً، وفضلاً كبيراً، وهي مناسبة خير وموسم بركة يغتنمه
المسلمون للمبادرة إلى التوبة النّصوح، والإكثار من الطاعات، والقربات، والاعتكاف،
والصلوات.
ما هي ليلة القدر؟
لقد خص الله سبحانه وتعالى ليلة القدر من بين ليالي السنة بالفضل والشرف العظيم، فهي الليلة التي أنزل فيها القرآن جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، قبل أن ينزل منجماً متفرّقاً على رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهي الليلة التي تضاعف فيها الحسنات، وتقبل فيها الدعوات، وتكثر فيها النفحات الربانية.
ما معنى اسم ليلة القدر؟
ورد اسم ليلة القدر في كتاب الله تعالى في السورة التي سمّيت باسمها، قال تعالى في مستهل السورة (إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر)[القدر:1]، كما جاءت الإشارة إلى ليلة القدر في الأحاديث النبوية الصحيحة، وقد اختلف في سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم فقيل إنّها سميت بذلك لأنها ذات قدرٍ عظيم أي شرف ومكانة، وقيل إنّها مشتقة من القدر والتقدير؛ لأن ّالله تعالى يقدّر فيها أقدار الخلق، قال تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )[الدخان:4]، وقيل أن الإسم يأتي من التقدير أي التضييق والخصوصية؛لأن الله تعالى قد خصّها بخصائص معيّنة دون غيرها من ليالي السنة.
مكانة ليلة القدر..
لهذه الليلة العظيمة فضل عظيم، ومكانة جليلة، دلّت على ذلك كثير من المزايا والخصال التي نالتها هذه الليلة المباركة دون غيرها: جعْل الله -سبحانه وتعالى- هذه الليلة محطّاً لتنزّل القرآن الكريم، فقد جاء عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أنّ تنزُّل القرآن الكريم كان في هذه الليلة جملةً واحدةً، من اللوحِ المحفوظِ إلى بيتِ العزّةِ في السماءِ الدنيا، وقيل: بل إنّ مُبتدأ نزول القرآن الكريم على النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في ليلةِ القدرِ.
إنّ المولى -سبحانه وتعالى- خصّها بالذكرِ في القرآن الكريم، وأفرد لها سورةً كاملةً، وبيّن أنّ أجر قيامها بالعبادة أكثر من أجرِ عبادةِ ألفِ شهرٍ، قال الله عزّ وجلّ: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ*لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ*تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
أنّها ليلةُ سلام من شرِّ الشيطان وأذاه؛ إذ إنّ الشمس تُشرق كلَّ يوم بين قرني شيطان، باستثناءِ هذه الليلةِ المباركةِ، تنزّل ملائكة الله -سبحانه وتعالى- في ليلة القدر ومعهم أمين الوحي جبريل عليه السلام، بالخير والبركة على الأرض.
إنّها ليلة مباركة في الأجرِ والثواب، فقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: (مَن قام ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبِه)، ولا شكّ أنّ المسلم يحرص على اغتنام هذه الخيرات العظيمة والأجور الكبيرة؛ فيتحرّى ليلة القدر، ويُجهد نفسه فيها بالصّلاة والدّعاء، ويحذر من الغفلة.
أنها ليلة تضاعف فيها الحسنات، فمن فضائل تلك الليلة أنّها خيرٌ من ألف شهر، وبالتالي يكون الأجر المتحصل من الأعمال الصالحة فيها مضاعف عما سواها من الليالي، أنها ليلة تكثير فيها النفحات الربانية لكثرة تنزل الملائكة فيها.
موعد ليلة القدر..
اختلف في تحديد ليلة القدر على التعيين لعدم ورود نص فيها في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة، فقيل أنّها ليلة الحادي والعشرين، وقيل بأنها ليلة السابع والعشرين من رمضان؛ لأنّ ضمير الإشارة هي في سورة القدر هو الكلمة السابعة والعشرون في السورة، وقد وردت أحاديث في أنّها في العشر الأواخر من رمضان، وتحديداً في الأيام الوتر منها، والصحيح أنّ علم موعدها قد أخفي عن المسلمين لحكمة ربانية حتى يجتهد الناس في العبادة في العشر الأواخر من رمضان ليلتمسوها تحصيلاً للأجر والثواب.
ما يستحب من الأعمال في ليلة القدر؟
يستحب للمسلم الذي يتحرى ليلة القدر فيدركها أن يقوم بما يأتي: الاجتهاد في القيام وقراءة القرآن.
الإكثار من الدعاء، ومن الدعاء المأثور المستحب فيها (اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي)[صحيح ابن ماجه].
علامات ليلة القدر..
أما علامات ليلة القدر فهي أنك ترى الشمس فيها
بلا شعاع، وهي ليلة لا باردة ولا حارة.
كيفية قيام ليلة القدر..
ليس لِليلة القدر صلاةٌ مَخصوصةٌ، إنّما تُقام تلك اللّيلة بكلّ طاعةٍ مُستحبّةٍ، وأفضل تلك الطّاعات الصلّاة، وأفضل الصّلاة قيام اللّيل وصلاة التّراويح، ويُؤجَر المسلم على قيامها بغير صلاةٍ إن عجز عن ذلك أو كان عنده شيءٌ يمنعه من الصّلاة كعذرٍ شرعيٍ مثلاً للنّساء، أو عملٍ ليليٍّ للرّجال، أو غير ذلك، وبيان الصّلوات التي تُقام بها ليلة القدر كما يأتي:
قيام اللّيل:
القيام لُغةً: مصدر قَوَمَ، قام الشَّخْصُ: وقف ونَهَض، انتصب، وعكسُه قَعَد، كان قاعداً فقام، قام الأمرُ: ظهر واستقرَّ، وقام اللَّيل: صَلّى.
قيام اللّيل اصطلاحاً: الصّلاة تَطَوُّعاً والذِّكرُ ليلاً، وصلاة قيامُ اللّيل: هي ما يُصَلّى من النّوافل بعد صلاة العشاء قبلَ النَّوم، وقيل: هو قَضاءُ اللّيل كلّه أو ساعةً منه بالصّلاة أو الدّعاء أو غير ذلك، فلا يُشترط أن يكون القيام طوال اللّيل أو أكثره، بل يصحّ إن كان لساعةٍ أو ساعتين أو حتّى لجزءٍ قليلٍ منه، ويرى ابن عباس رضي الله عنهما أنّه يحصل بصلاة العشاء جماعةً، والعزم على صلاة الصّبح جماعةً، لقول الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: (من صلّى العشاء في جماعة فكأنّما قام نصف اللّيل، ومن صلّى الصُّبحَ في جَماعة فكأنَّما صَلّى الليل كُلَّه).
وقيل: معنى القيام أن يكون مُشتغلاً مُعظم اللّيل بطاعةٍ، وقيل: ساعةٌ منه، يَقرأ القرآن، أو يُسبِّح، أو يذكر الله، أو يسمع الحديث.
كيفيّة صلاة قيام اللّيل
يُستحبُ أن تُبدأَ صلاة قيام اللّيل بركعتين خفيفتين ثم تُكمَّل الصّلاة ركعتين ركعتين لما ورد عن رسول الله - عليه الصّلاة والسّلام- من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (صلاةُ الليلِ مَثْنى مَثْنى، فإذا رأيتَ أنَّ الصبحَ يُدركُك فأَوتِرْ بواحدةٍ، فقيل لابنِ عمرَ: ما مَثْنَى مَثْنَى؟ قال: أن تُسلِّمَ في كلِّ ركعتَينِ)، ولحديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ - رضي الله عنه - قال: قُلْتُ: (لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللهِ - عليه الصّلاة والسّلام - اللَّيْلَةَ، فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ أَوْ فُسْطَاطَهُ (البيت من الشَعْر) فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - عليه الصّلاة والسّلام - رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَهُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ هُمَا دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ أَوْتَرَ، فَذَلِكَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً).
وبذلك تُصلّى صلاة القيام رَكعتين رَكعتين، ويجوز أن تُصلّى أربعاً أربعاً كالظّهر، ولكن الأفضل أن تُصلّى ركعتين ركعتين لفعله - عليه الصّلاة والسّلام- ذلك، أمّا عن هيئتها، فهي صلاة كغيرها من الصّلوات؛ تُفتَتَح بتكبيرة الإحرام، ثمّ دُعاء الاستفتاح، وقراءة سورة الفاتحة، وما تبع ذلك من ركوع وسجود، وعند الانتهاء من صلاة القيام يَختتمها بركعة وِتر.
صلاة التّراويح..
تعريفها: صلاة التّراويح مفردها ترويحة ومصدرها (رَوَحَ)، وصلاة التّراويح: صلاة تؤدَّى في رمضان بعد صلاة العشاء، يستريح المُصلّي فيها بين كلِّ ركعتين، لذلك سُمِّيت بالتّراويح.
تُؤدّى صلاة التّراويح كصلاة قيام اللّيل ركعتين ركعتين؛ لقول رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- : (صلاةُ الليلِ مَثْنى مَثْنى، فإذا رأيتَ أنَّ الصبحَ يُدركُك فأَوتِرْ بواحدةٍ، فقيل لابنِ عمرَ: ما مَثْنَى مَثْنَى؟ قال: أن تُسلِّمَ في كلِّ ركعتَينِ).
عدد ركعاتها: ثبت أنَّ صلاةَ التّراويح عشرون ركعةً سوى الوتر، وقال المالكيّة: هي عشرون ركعةً دون الشَّفع والوتر. وروي عن ابن حبان (أنّ صلاة التراويح كانت في بداية الأمر إحدى عشرة ركعة، وكان الصّحابة يُطيلون في القراءة فثقل عليهم ذلك، فخفّفوا القراءة وزادوا في عدد الرّكعات؛ فكانوا يُصلّون عشرين ركعةً غير الشّفع والوتر بقراءة مُتوسّطة، ثم خفّفوا القراءة وجعلوا الرّكعات ستاً وثلاثين غير الشّفع والوتر، ومضى الأمر على ذلك).
صلاة الوتر..
الوتر لُغَةً: من وَتَرَ، والوتر: الفَرد، وتُلفَظُ وَتْر ووِتر بِالفَتح والكَسر.
الوتر في الاصطلاح: هي صلاةٌ مَخصوصةٌ في أوقاتٍ مَخصوصةٍ تُختَتَمُ بها صلاة اللّيل؛ سواء كان في أول اللّيل، أو وسطه، أو آخره، وتكون عدد ركعاتها فرديةً، ولذلك سُمِّيَت وِتراً.
عدد ركعاتها: اختلف العُلماء في عدد ركعات صلاة الوتر وتفصيل ما ذهبوا إليه فيما يأتي: ذهب الحنفيّة إلى أنَّ عدد ركعات صلاة الوتر ثلاث ركعاتٍ تُصلّى كالمغرب بتسليمةٍ واحدةٍ.
ذهب المالكيّة إلى أنَّ أقلُّ صلاة الوتر ثلاث ركعات تُصلّى ركعتين ثم واحدةً، ويجوز أن تُصلّى أربعاً أو ستاً أو أكثر من ذلك، وتُختتم بركعة وترٍ واحدة.
واستدلّوا بحديث عائشة - رضي الله عنها - أن النّبي - عليه الصّلاة والسّلام - (كان يُصلّي باللّيل إحدى عشرة ركعةً يُوتر منها بواحدة).
ذهب الشافعيّة إلى أنَّ أقلَّ الوتر واحدةٌ، وأدنى الكمال ثلاث ركعات، ويجوز أن يُوتر بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ، وأكثرها إحدى عشرة ركعةً، وقيل: ثلاث عشرة ركعة، ودليلهم ما رُوِي عن النّبي - عليه الصّلاة والسّلام - أنّه قال: (من شاء أوترَ بسبعٍ ومن شاء أوترَ بخمسٍ، ومن شاء أوترَ بثلاثٍ، ومن شاء أوترَ بواحدةٍ).
وقال الزهريّ: (هي في رمضان ثلاث ركعات وفي غيره ركعة)، وقال الحسن: (أجمَعَ المُسلمون على أنّ الوِتر ثلاثُ ركعاتٍ بتسليمةٍ واحدةٍ في آخِرِهِنّ؛ لأنّ الوتر من النّوافل، والنّوافل جاءت فرضيتها كتوابعَ للفرائض، فيجب أن يكون لها مثيلٌ منها، والرّكعة الواحدة ليس لها مثيلٌ في الصّلوات المفروضة)، ومَثيلَتُها في الفرائض من حيث الإفراد في عدد الرّكعات صلاة المغرب فتُصلى كالمغرب؛ ثلاث ركعاتٍ بتسليمةٍ واحدة.
ذهب الحنابلة إلى أنَّ أقلَّ الوتر ركعةً، ولا يُكره الإتيان بها مُنفردةً كما يقول الشافعيّة، وأكثرها إحدى عشرة ركعةً، وله أن يُوتر بثلاث، وهو أقلّ الكمال، وبخمس، وبسبع، وبتسع.
قيام ليلة القدر بالذِّكر وقراءة القرآن من كان
عاجزاً عن قيام ليلة القدر لعذرٍ أو انشغالٍ أو عملٍ وأراد أن يُقيمها بذكر الله
وتحميده، وتسبيحه، والصَّلاة على رسوله، وقراءة القرآن، ومُذاكرة أحاديث المُصطفى
- عليه الصّلاة والسّلام- فله ذلك، ويُحسب من الذّاكرين، ويُؤجر على قِيامه وذكره
وقراءته، وينال أجر قيام ليلة القدر، وذلك لقوله عليه الصّلاة والسّلام: (مَنْ قَرَأَ
بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخر سُورَةِ البَقَرَةِ في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ)، قِيلَ:
كَفَتَاهُ مِنْ قِيامِ اللَّيْلِ، قال الحافظ: (وقيل: معناه أجزأتاه فيما تعلّق
بالاعتقاد، لِما اشتملتا عليه من الإِيمان والأعمال إجمالاً)، ثم ذكر أقوالاً
أخرى، قال: (ويجوز أن يُراد جميع ما تقدّم والله أعلم). وعن أبي مسعود قوله: (من
قرأ خاتمة البقرة أجزأت عنه قيام ليلة).