أغنية هادئة

أغنية هادئة وانعكاس الرواية على الواقع

كنت أتساءل بالأمس –وليست المرة الأولى– عن المغزى من مشاهدة فيلم مقتبس عن رواية قرأتها. تبينت أن ما يتيحه لك هذا السبق هو الاطلاع على ما لا يستطيع الفيلم طرحه مهما اجتهد صانعوه: المونولوجات الداخلية للأبطال، تشابك الدوافع، تطور سلاسل الأفكار، ومبررات الأفعال التي لا يحتمل تركيب الفيلم عرضها إلا تلميحًا.

لو كانت الحياة صورة أكثر عفوية وأقل تنميقًا من الأفلام فيمكن القول إن الأدب يقوم معها بالدور نفسه. الكتابة تتيح لنا التعبير عن الأسرار المكتومة والمشاكل المهجورة، تستخرج من صدور الناس ما لا يجهرون به ومن عقولهم ما لا يعترفون بوجوده. ومثل نظارات كاشفة، تتيح لك الروايات التي على غرار “أغنية هادئة” إبصار ما يختفي خلف السطح الساكن للحياة؛ ما تكاد لا تعبر عنه ظواهر أفعال الناس البادية في العادة في صورة سطحية غير مثيرة للاهتمام.


ما تفعله الرواية في المجمل، ورواية “ليلى سليماني” هذه بشكل خاص، هو اقتطاع جزء عشوائي من مسار الحياة وتحليله على النحو الذي يبرز كل لحظاته المحورية ومشاكله القابلة أو غير القابلة للعلاج. في كل الأحوال، إذا لم يكن هذا التشريح كفيلًا بإيجاد الحلول فهو قادر على أقل تقدير على تحسين الرؤية وإبداء التفاصيل.


هل تلائمنا مقاسات القصة؟

في البداية كان الانبهار بالمربية المثالية، وشعور عارم بالتحرر من الأطفال والانطلاق في العالم الواسع الذي لا يحدّه إلا فعل بخطورة الزواج يعقبه آخر هو الإنجاب. مساحة أقل للأبوين الذين يمارسان دورهما الحديث وهو تزويد المال، ومساحة أكبر للمربية الشغوف المجتهدة التي كان سيسهل التخلص منها لو أنها بدت للوهلة الأولى مريضة غير مستقرة. لويز التي لم تعش حقًا تكتسب أرضًا جديدة كل يوم، لويز التي لم تقرأ ولا ذاقت الموسيقى ولا نعمت بزواج طيب تحصل أخيرًا على كل شيء. من الصعب إقناعها بأن الأرض التي تقف عليها ليست ملكها وأن كل هذا إلى زوال، حتى لو كان الأبوان قد لاحظا علامات دالة سعيًا إلى محاربتها بإقامة بعض الحدود.

أحلام لويز غير المنطقية تستقر ثم تتضخم. يمكن لامرئ تعيس تلخيص شقائه في نقطة يسعى بوضع الخطط إلى إزالتها، وهذا ما تفعله لويز التي تعتقد أن شيئًا كالسفر إلى اليونان، أو إنجاب مريم لطفل جديد، يمكن أن يمنحها حياة جديدة ويضمن ذهاب همومها.

السؤال الذي يطرحه التأمل في النص هو: ما مقدار الفائدة الذي يمكن أن يستنبطه القارئ العربي من نص يمثل ثقافة أخرى ويعرض مشكلات مغايرة؟ يمكننا تركيب عبارات كبيرة عن العالم الواحد والجسر الذي يمده الأدب بين الأمم والأعراق ونحو ذلك، غير أن أي فائدة يمكن أن يحققها النص عائدة لاشتراك المشاكل البشرية في أساسها، وتشابه علل الناس وأصنافهم وإن تعددت ألوانهم وألسنتهم. ربما تقوم الظروف المختلفة بإنشاء تحديات مختلفة لا يسهل أن يرتبط بها القارئ العربي ويتفهمها، لكن العمق الذي تمنحه الكاتبة لـ “أغنية هادئة” يصل إلى قلوب المشاكل ويمنحها عالميتها.


إخوانكم

في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إخوانكم خولكم [يعني خدمكم]، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم”.

الالتزام بهذا النص الكريم لا يعني بطبيعة الحال القطع بتفادي كل السيناريوهات السيئة المحتملة، وسرده ليس في سياق إيجاد حل جذري للمعضلة الروائية التي زادها تعقيدًا انتهاء النص بمقتل طفلين. لعله ليس ثمة حل جذري لأي شيء، أو لعل هذا التأثر مصدره حالة الانغماس التخيلية التي تفرضها القراءة والفاصلة عن الآراء الموضوعية التي تفيد الناظر في الواقع.

في أول ظهور تقريبًا لشخصية لويز في رواية “أغنية هادئة” نعرف صفة قد تكون أهم ما عرفناه عنها في الحكاية. تسرد الكاتبة هذا من خلال إظهار لويز في مسكنها الضيق عاجزة عن تحمل وقت الانتظار قبل موعدها مع مشغليها. الرسالة واضحة: لويز بلا حياة في واقع الأمر ومنحها هذه الأسرة لن يكون في سياق التوظيف فحسب بل في سياق أكبر وأشد خطورة. لأجل هذا، وبتقدم النص التدريجي الملهم، نعرف المعضلة الحقيقية التي يعاني منها الوالدان (حتى بعد تطور الأمر وظهور علامات مقلقة على سلوكيات لويز): طرد لويز ليس خيارًا فعليًا إذ أن المفاضلة واقعة بينها والعدم. الظريف أن مفاضلة لويز –لو كانت لتفاضل– بينهما والعدم أيضًا.

لاحظ أن الجريمة (التي يمكن التخلي عنها بسهولة) تمنح النص بعدًا إضافيًا، فلا يتوقف القارئ، الذي يعلم النهاية منذ الصفحة الأولى، عن محاولة اعتراض المقدور واقتراح مسارات بديلة ومحاربة الانسياب المأساوي للقصة. ألا تبدو “أغنية هادئة” مثالًا مصغرًا للحياة في بعض صورها؟


لعلنا سنكون بخير

ثمة مشهد مختصر قرب نهاية رواية “أغنية هادئة” للكاتبة ليلى سليماني يظهر الأسرة عائدة إلى البيت بالسيارة، حين ترى مريم لويز بالصدفة. قبيل انتهاء النص تتمكن مريم، ربما للمرة الأولى، من معرفة أن لويز لها حياتها الخاصة، أنها لا تتلاشى من الوجود بمجرد انتهاء دورها في بيتهما وعبور عتبته إلى الخارج. الاقتباس في مطلع الرواية يمهد لهذا ويندمج بالقصة كلها عند هذه السطور.

“(ينبغي أن يموت أحدهم، ينبغي أن يموت لنسعد). تهدهد لويز أغنياتٌ سقيمة، وتسكن فكرها جمل لم تنشئها، وهي غير واثقة من أنها تفهم معناها. تحجّر قلبها بعد أن كسته السنوات بقشرة سميكة باردة حتى إن خفقانه بالكاد يُسمع، ولم يعد يؤثر فيها شيء. عليها أن تسلم بأنها لم تعد تعرف الحب، وأن قلبها استنفد كل ما يختزن من حنان، ويديها لم يعد لهما شيء تداعبانه. وسمعت نفسها تقول: (بسبب هذا سينزل بي العقاب، لأنني لم أعد أعرف كيف أحب)”.

الاعتماد الزائد على لويز جرى على مستوى أعمق من الظاهر، كانت الأم والأب ومن تُبقي جدران البيت قائمة وأعمال الأبوين مزدهرة، لم تكن فقط متطوعة تقوم بما يزيد على دورها من غسل الملابس ورتقها وتنظيف الشقة وإعداد الطعام. وبالتالي ما كان انهيار البيت تبعًا لانهيارها مفاجئًا لأحد، المشكلة كانت في صورة هذا الانهيار، وهو ما استدعى إدخال الجريمة باعتبارها ذروة التعكير الممكنة لهذه الأغنية الهادئة.